بِقَلَمِ: ثَابِتِ عِيدٍ
جَعَلَتْ ديكتاتوريّةُ عسكرِ مصرَ بلادنا مرتعًا خصبًا للفسادِ. قادَ عسكرُ مصرَ قافلةَ الفسادِ في مصرَ منذ انقلابهم الأسودِ سنة ١٩٥٢م. قدّم مجرمو عسكرَ مِصْرَ نموذجًا يُحتذى به لسائر طبقاتِ المجتمع المصريِّ. فاقتدى بفسادهم قضاةُ مِصْرَ، وشُرطةَ مصرَ، وإعلاميّو مصرَ، وسفراءُ مصرَ في الخارجِ، وأساتذةُ جامعاتِ مصرَ. وهكذا صارَ المصريّونَ يُطبّقونَ قولَ الشّاعرِ تطبيقًا حرفيًّا، حينَ قال: «إذا كانَ ربُّ البيتِ للدّفِّ ضاربًا، فشيمةُ أهلِ البيتِ كلّهم الرّقصُ». وبعدُ.
تحكي برلنتي عبد الحميد في كتابها: «المشير وأنا» قصّةً معبّرةً في هذا السّياقِ، حيثُ تصفُ بعضَ مشاهدِ التّحقيقِ معها، قبيلَ قيام عبد النّاصر بقتل المشير عبد الحكيم عامر، فتقولُ: «(…) قال أمين هويدي بلهجةٍ مباغتةٍ: (هل تعرفينَ لغاتٍ أجنبيّة؟) ابتسمتُ: (أعرفُ إنجليزيّ وفرنساويّ، وبعض الإيطاليّة). قالَ بعجالةٍ: (هل تذهبينَ إلى السّفاراتِ الأجنبيّة؟) وسؤال ثالث: (هلْ كنتِ تقابلينَ السّفراءَ الغربيّين؟) أجبتُه وقد أخذتني قسوته: (نعم. ولكنّ جمال عبد النّاصر يعرفُ الإنجليزيّةَ، ويُقابلُ السّفراءَ. لِمَ لا تُحقّقونَ معه؟) ردّ بصرامةٍ: (جاوبي على قد السّؤالِ). داهمتني ذكرى الشّائعاتِ. تلكَ الّتي أشاعوها عنّي، فقالوا إنّي عميلةٌ أمريكيّةٌ!! وقالوا ويالسخفِ ما قالوا إنّي اختفيتُ قبلَ الحربِ بأيّامٍ، كنتُ خلالها في إسرائيلَ، وإنّ هذا سببَ النّكسةِ)!! قلتُ في نفسي: (لقد لفّقوا حكاياتهم عنّي، وها هم … يُريدونَ تلفيقَ الدّليلِ. وشعرتُ بخوفٍ شديدٍ. ونظراتُ أمين هريدي تُلاحقني في انتظارِ الإجابةِ. قُلْتُ: (إِنَّ رئيسَ الدّولةِ قُدْوَةٌ للنَّاسِ. فَإِذَا فعلْتُ ما يفعلُهُ، فلنْ أكونَ بعيدةً عَنِ الصّوابِ). وسادَ الصّمتُ. ثُمَّ مدَّ حلمي السّعيد يدَهُ، وضغطَ على الزّرارِ الموضوعِ في درجٍ من أدراجِ مكتبِهِ. انتهى التّسجيلُ، وانتهتِ المكالمةُ. وفي نهايةِ اللّيلِ نفضوا أيديهم منّي، وأعادوني معصوبةَ العينينِ، كما أخذوني، إلى منزلي). ا. هـ.
بصرفِ النّظرِ عن كونِ برلنتي عبد الحميد زوجةَ أحدِ كبار المشاركين في انقلاب سنة ١٩٥٢م، وهو المشير عبد الحكيم عامر، إلّا أنّه من الملاحظِ أنّها أفحمتْ رجالَ عبد النّاصرِ من أمنِ الدّولةِ والمخابراتِ الحربيّةِ، حينما أشارتْ إلى حقيقةِ أنّ النّاسَ يقتدونَ بزعمائهم، وبالتّالي لا يجوزُ توجيه أيّ لومٍ لهم، إن همْ قلّدوا زعماءهم، وفعلوا ما يفعلونه. كما تُظهرُ هذه الواقعةُ الشّيءَ الوحيدَ الّذي يُتقنه مجرمو عسكر مصر، وهو تلفيق التّهم للأبرياءِ، وإذلالُ عبادِ اللّهِ. فلماذا يقومُ المجرمون بتعصيبِ عيونِ المواطنين العزل؟. وبعدُ.
وضعَ مجرمو عسكرِ مِصْرَ أُسسَ الفسادِ في مصرَ الحديثةِ. فصارَ النّاسُ يقتدونَ بفسادهم، ويسيرونَ على دربهم. ولتتأمّلْ معي، أيّها القارئ الكريمُ، النّتائجَ المنطقيّةَ الّتي ترتّبتْ على الحقيقةِ الدّامغةِ لفسادِ العسكرِ:
استولى العسكرُ على الحكمِ سنةَ ١٩٥٢م بقوّةِ السّلاحِ، وليسَ بالانتخاباتِ. فرسّخوا بذلكَ مبدأَ أنّ الغلبةَ للقوّةِ، وليسَ للحقِّ، وأنَّ القويّ من حقّه أن يستعبدَ الضّعيفَ، وأنّ المدجّجَ بالسّلاحِ بوسعِهِ أنْ يتحكّمَ في الإنسانِ الأعزلِ ويذلّه، ويسحقه. فكانَ من تبعاتِ هذا السّلوكِ الإجراميّ للعسكرِ أن رأينا شرطةَ مصرَ تقتدي بمجرمي العسكر، فصارت تمارسُ البلطجةَ، بدلًا من حمايةِ الشّعب. وأصبحتْ وظيفةُ شرطةِ مصرَ هي إذلال الشّعبِ المصريّ، وترويعه، وليس حمايته وخدمته. وسرعانَ ما انتقلتْ هذه العدوى أيضًا إلى قضاةِ مصرَ الّذينَ تجاوزَ فسادهم فسادَ مجرمي عسكرَ مصرَ كثيرًا. وهكذا تبنّى قضاةُ مصرَ، وقانونيّوها، مبدأ تقديم القوّةِ على الحقّ، فصرنا نسمعُ منهم عبارةً شهيرةً، لا يتوقّفونَ عن ترديدها لتهديدِ الجميع: «سوفَ أسجنك»!! فباعتبارهم قانونيّينَ، أو كما يحلو لبعضهم أن يسمّي نفسه: «فقهاء قانون»، يظنّونَ أنّ بوسعهم الزّجّ بأيّ شخصٍ لا يعجبهم في السّجونِ والمعتقلاتِ. وهذا سلوكٌ مطابقٌ لسلوكِ مجرمي عسكرِ مصرَ عندما يظنّونَ أنّ قوّة سلاحهم تجعلهم فوقَ القانون، وفوقَ الشّرعيّةِ، وفوقَ الدّستورِ، وفوقَ المساءلةِ. ويتّضحُ هذا السّلوكُ الإجراميّ بصورةٍ مقزّزةٍ في شخصِ المدعو مرتضى منصور الّذي لا يتوقّفُ عن السّبّ والشّتم واللّعن والتّهديدِ، مع أنّ سلوكَ أيّ إنسانٍ يدّعي الانتماءِ إلى مؤسّسة القضاءِ ينبغي أن يكونَ أبعدَ عن كلّ هذه الخصالِ الذّميمةِ. لكنّ المبدأَ الّذي وضعه مجرمو عسكر مصرَ بأولويّة القوّة على الحقّ، وتغليبِ السّلاحِ والسّلطةِ على القانونِ والشّرعيّةِ أفرزَ لنا مثلَ هذه السّلوكيّاتِ السّوقيّةِ الدّنيئةِ. وقد ظهرت طبقة «البلطجيّة»، وازدهرت جرائمها، في هذا الإطارِ أيضًا. فمادام العسكرُ يستخدمونَ السّلاحَ، ويقتلونَ الشّعبَ الأعزلَ، ولا يعترفونَ بحقوقٍ إنسانيّةٍ للنّاس، بل لا يعترفونَ بأيّ قوانين أو دساتير إنسانيّة، فلماذا لا يقتفي المجرمونَ أثرَهم، ولماذا لا ينتهجونَ طريقهم؟ فلم يكن مستغربًا بعد ذلك أن يتحالفَ المجرمونَ، وتلتقي عصابات العسكر والشّرطة والبلطجيّة جميعًا على هدف واحد هو قتل الشّعب الأعزل، وترويع العابدين، واغتيال السّاجدين، وإرهاب المتظاهرين. وبعدُ.
وظّفَ مجرمو عسكرِ مصرَ الزّيّ العسكريّ من أجل النّصب على النّاسِ، وفرض احترامهم على العبادِ. كما حرصوا على إضفاءِ قدسيّةٍ كبيرةٍ وهيبةٍ عظيمةٍ على الألقابِ العسكريّةِ. فصارَ النّاسُ يشعرونَ بالرّعب، عندَ سماعِ كلمة «لواء»، أو لفظِ «المخابرات الحربيّة»، أوِ «الشّرطةِ العسكريّة». هذا بالرّغم أنّ هذه الأزياءَ العسكريّةَ صارتْ تخفي وراءها رجالًا ليس لهم أدنى علاقة بالعسكريّة الصّحيحةِ أو الجنديّة الحقيقيّةِ، خاصّةً أنّ جيشَ مصرَ لم يطلق رصاصة واحدةً على إسرائيل منذ انتهاء حرب أكتوبر سنة ١٩٧٣م. وأصبحنا لا نجدُ إلّا خواءً وفراغًا خلفَ هذه الألقابِ المرعبةِ. فاللّواءاتُ أصبحوا رجالَ أعمالٍ، وطلّقوا العسكريّة بالثّلاثةِ منذ عقودٍ. وهكذا انتقلتْ هذه العدوى إلى سائرِ طوائف المجتمع المصريّ. وكانتِ الشّرطةُ هي أوّل من اقتدى بمجرمي العسكر، حيث أصبحت الألقاب بالنّسبة لرجال الشّرطةِ مسألة حياة أو موت. وبعدَ ذلكَ تفشّى هذا السّرطانُ الخبيث بينَ أساتذة الجامعات المصريّة المزعومين، فصاروا لا يطيقونَ أن يخاطبهم أحد، بدون الألقابِ الفضفاضةِ. والسّببُ واضحٌ هنا أيضًا. فكما طلقَ العسكرَ الحياةَ العسكريّة بالثّلاثةِ منذ عقودٍ طويلةٍ، فعلَ علماء مصر المزعومون الشّيء نفسه مع العلم والبحث العلميّ منذ عقود طويلة أيضًا. فانقلاب سنة ١٩٥٢م دمّر البحثَ العلميّ في مصر تمامًا، وحرصَ العسكرُ على تجويعِ العلماءِ، حتّى يتخلّصوا من أيّ معارضة محتملة تأتيهم من جانبِ علماء مصرَ. والمفلتُ للنّظرِ في ظاهرة تفشي الألقاب الفارغة في عصر مجرمي عسكر مصر هو شيوع استخدام الألقاب الرّنّانة على مستويات اجتماعيّة مختلفة. فهذا باشا، وذلك بيه، والآخر بيشمهندس، وذاك أفندي. وَبَعْدُ.
من أسوأ أصنافِ الفسادِ الّتي كرّسها عسكرُ مصرَ، أو ساهموا في تكريسها في مصرنا، قيامهم بالاستيلاء على كلّ ما يحلو لهم من أراضي الدّولة عن طريق «وضع اليد». وهي وسيلة تتمشّى مع مواقفهم الأساسيّة المزدرية للقانون، والمتغطرسة بقوّة السّلاحِ. قامَ العسكرُ بالاستيلاء على مساحاتٍ شاسعةٍ من أجمل الأراضي الواقعة في المناطق السّياحيّة عن طريق «وضع اليد». ثمّ باعوهم بعد ذلك لشركات سياحيّة لم تمانع في الدّخول في شراكة معهم لتقاسم أرباح مشروعاتهم السّياحيّة. وقد فعلَ الشّيء نفسه، أو ما يشبهه، المدعو سميح ساويرس الّذي حصل على مساحاتٍ شاسعةٍ من أراضي الدّولة على البحر الأحمر، ليقيم عليها مشروع «الجونة» الّذي جنى منه المليارات الحرام. وبعدُ.
يستطيعُ القارئ الكريم أن يعود إلى الدّراسات الكثيرة المنشورة عن الفساد المستشري في المؤسّسة العسكريّة المصريّة، ليرى كيف قام العسكر بتأسيس إمبراطوريّة اقتصاديّة داخل الدّولة، بعيدة عن أيّ رقابةٍ حكوميّة أو مساءلة برلمانيّة. أقامَ العسكرُ المصانعَ، والفنادقَ، والمستشفياتِ، والمزارعَ. لكنّهم يدوسون على القانون بأقدامهم، فرفضوا دفع أيّ ضرائب، أو جمارك للدّولة. وهذا أيضًا امتداد لموقفهم الأساسيّ الّذي يقوم على شريعة الغاب، وفرض كلّ شيء بقوّة السّلاح، والضّربِ بالقوانينِ عرضَ الحائطِ. اقتدى بمجرمي عسكر مصر مجرمو قضاة مصر، فصاروا يرفضون دفعَ أيّ ضرائب مستحقّة للدّولةِ. وبعدُ.
حرصَ مجرمو عسكرِ مصرَ على تكريسِ تقليدٍ آخر يمثّل بدوره أحدَ مظاهرِ الفسادِ الفجّة في مصرَ، وهو الحصول على امتيازاتٍ لعائلاتهم. فصرنا نرى أبناءُ ضبّاطِ الجيشِ يلتحقونَ بسهولةٍ بالكلّيّاتِ العسكريّةِ، ليس عن كفاءة وأهليّة، لكن بالفساد والمحسوبيّةِ. وامتدت هذه العدوى إلى سائر طبقات المجتمع المصريّ، فصار قضاةُ مصرَ الغارقون في الفساد يحرصون على تعيين أبنائهم في أحسن المناصب القضائيّة، بصرف النّظر عن عدم استحقاقهم لهذه المناصب. ورأينا الشّيء نفسه مع أساتذة كلّيّات الطّبّ المصريّة الّذين يحرصون على تعيين أبنائهم أساتذة في الجامعاتِ. وغنى عن البيانِ أنّ شرطة مصر المجرمة لا تتورّع عن ممارسةِ أيّ فساد صادر عن مجرمي العسكر. وبعدُ.
كرّسَ مجرمو عسكرِ مصرَ أيضًا مبدأ الابتزازِ، وعدم احترام القانونِ، وفرض كلّ شيء بالقوّة. انتقلتْ هذه العدوى إلى قطاعات واسعة من الشّعب المصريّ. فصار الموظّف الصّغير يقلّد هو أيضًا العسكر المجرمينَ، فلا ينجز أيّ عملٍ، إلّا بالرّشوة. وتعتبر مصلحة الجمارك في مصر أكبر هيئة حكوميّة تسير على نهج العسكر في الفساد وتلقي الرّشاوي. فقد أثبتتِ الدّراسات مؤخرًا أنّ مصلحة الضّرائب المصريّة هي أكثر المصالح الحكوميّة فسادًا. وبعدُ.
وهكذا أشاعَ مجرمو عسكرِ مصرَ الفسادَ في ربوع مصرَ وأنحائها. وأفسدوا كلّ شيء في البلاد والعباد، في الإنسانِ والجمادِ. ولذلكَ لم يكن مستغربًا أن يكملوا مسلسل جرائمهم بتقتيل الأبراء، واغتيال السّاجدين، وترويع المسالمين، والقبض على المعارضين. فوجبَ على كلّ شرفاء مصر، وأحرارها، أن ينتفضوا جميعًا من أجل الدّفاع عن حقوقهم، واسترداد كرامتهم المسلوبة، ودحر أصل الفساد ومنبع الشّرور مجرمي عسكر مصر الّذين أغرقوا بلادنا في مستنقعٍ خطير من الفساد والتّخلّف والإجرام.