فالهجرة كانت فتحًا ونصرًا، وإننا في أيامنا هذه لفي حاجة ماسة إلى استلهام منهجية النصر التى قامت عليها الهجرة المباركة، لنعرف أين نحن وفي أي طريق نسير، فالهجرة لم تكن مجرد قصص يحكى، أو تاريخ يتلى، أو قصص للتسلية والاطلاع، وإنما كانت منهجية نصر ثابتة، ملهمة لكل العصور والأزمان.
وإن من قواعد منهجية الهجرة في النصر ما يلي:
1- التضحية طريق الريادة:
أدرك الصحب الكرام أن الإسلام العظيم يستحق التضحية بكل غالٍ وثمين، فهانت عليهم نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وأموالهم فداءً لدين الله، وأولادهم جنودا لله، إذا ناداهم الإسلام يوما أجابوه:
لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللـــواء
سكب الشباب له الدماء.
فعلَّموا الأمم الباحثة عن النصر أن الموت في سبيل الله ليس مصابًا يستحق العزاء، وأن البذل في سبيل الله ليس بلاءً يستحق الرثاء وإنما هذه التضحيات من أبواب الشرف المستحق للسعادة والاحتفاء.
وأن الأمة التى لا تقدم أبناءها في ساحة الشرف كرامًا، ستفقدهم حتمًا في ساحة الخسة والدناءة لئامًا.
2- التخطيط واجب شرعي:
منحنا الله إمكانات، وأوجب علينا الإفادة منها، واستخدامها في إعمار الأرض بدين الله تعالى، وأن التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة معصية لمن أودعها في جنباتنا وفضلنا بها على كثير من خلقه.
ومن هنا أدرك الأصحاب أن التخطيط والأخذ بالأسباب ليس خيارًا لمن أراد النجاح، ولا احتمالاً لمن أراد الفلاح، وإنما هو طريق لا بد من سلوكه، ومرتقى لا بد من عروجه، فالله يعاقب المقصرين المفرطين كما يعاقب المعتدين الآثمين.
وكما قال أبو تمام:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
3- السعي للنصر لا يستثني أحدًا:
لم تكن الهجرة عملاً فرديًا، أو بطولة شخصية، وإنما كانت لوحة فنية راقية، لكيفية استثمار الإمكانات المتعددة والطاقات المتغيرة والشرائح المتناثرة، ففيها بذَل الرجال والنساء، وشاركت المرأة في صناعة المشهد أيما مشاركة، وساهم الشباب فكان لهم أوفر الحظ والنصيب، مع حكمة الشيوخ وخبرة الأيام، وبراعة القائد وتوكله على الرحمن.
ومن هنا أدركت الأمة أن نهضتها وريادتها يحتاج إلى تكاتف كل القوى، والإفادة من كل الطاقات، واستثمار كل الإمكانات، وليس حكرًا على أحد، أو خاصًا بمجموعة أو طائفة، بل لا بد من استنهاض كل الهمم، دون إبعاد أو إقصاء أو اصطفاء.
4- الأمل بعد العمل:
مع الأخذ بالأسباب المتاحة فإن النصر معقود بأمر مُهديه، وإذن مُسديه، وفضل مُؤتيه، لذا فالنصر عقيدة راسخة في نفوس المؤمنين وإن ذهبت أسبابهم، وقلت حيلتهم، وتكالب عليهم أراذل الخلق وأحزاب الشيطان، فإن منطقهم الدائم:(كلا إن معي ربي سيهدين).
فهم بعد بذل الجهد المتاح ينسون ما بذلوه من أسباب، ويتعلقون بمن خلق الأسباب، طالبين حبال إمداده، ووفود جنوده، وخيل نصره، ولسان حالهم ينادي في كل خائف، ويطمئن كل قلق، ويثبِّت كل مأزوم: (لا تحزن إن الله معنا).
5- الثقة سفينة الأمان:
لا يمكن للنصر أن يتحقق إلا إذا استقرت أمواج النفوس، وتوقفت عواصف الشكوك، واطمأنت القلوب لوعد ربها، وسكن الفؤاد بذكره، واستوى على جودي تدبيره، وتشرَّب بالثقة في لطفه وحسن تقديره. (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
6- بعد إرادة الإقصاء كان الارتقاء:
أراد حلف الشيطان وحزبه للدعوة ورائدها حبسًا خلف القضبان، أو نفيًا في القفارى والبلدان، أو قتلاً ووأدًا تحت الثرى بغية النسيان، ولكن نسي القوم أن هذا الكون ليس فيه الناس فحسب، ولكن هناك رب الناس يحصي ويكتب، يقدِّر ويدبر، فلا راد لأمره ولا مبدل لحكمه، أراد لدعوته البقاء والارتقاء، فطمأن قلوب عبادة بقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
6- بعد التخفي والحذر.. طلع البدر علينا:
بعد الحذر والقلق كان الأمن والفرج، بعد التخفي والاحتياط كان الظهور والاغتباط، بعد التربص والمطاردة كانت الرفعة والمناصرة، بعد التشويه والإرجاف كانت البراءة والإتحاف، بعد أن همس الصدِّيق: "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا"، كانت "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع".
هذا هو الطريق وهذه منهجيته ومعالمه، فأبشروا بالخير، واستمسكوا بنور الله الذي آتاكم، وثقوا فيمن على طريق الحق أوقفكم.
_____________________
الأستاذ بجامعة الأزهر ووكيل وزارة الأوقاف السابق