لم تأخذ أحداث شارع محمد محمود مكانتها التي تستحقها في الذاكرة المصرية.
ليس ذلك فحسب وإنما تعرضت أيضا للطمس والتزوير، حتى غدت جزءا من تاريخ مصر المجهول والمفترى عليه؛ذلك أنني أزعم أن ما جرى آنذاك (بين يومي 19 و25 نوفمبر عام 2011) يعد أهم أصداء ثورة 25 يناير التي لم تتكرر بعد ذلك.
إن شئت فقل إنها الجولة أو الموجة الثانية للثورة؛ الأولى كانت ضد استبداد مبارك وفساده،
والثانية كانت ضد حكم العسكر.
وكان الثمن باهظا في الجولتين،ذلك أن شراسة نظام مبارك ضد محاولة إسقاطه، لم تختلف كثيرا عن الشراسة والعنف الذي قوبلت به الجولة الثانية التي دعت إلى تسليم السلطة للمدنيين.
الأمر الذى قد يسوغ لنا أن نقول إن ثورة 25 يناير إذا كانت قد أرغمت مبارك على التنحي ولم تسقط نظامه، فإن جنود مبارك وأذرعه خرجوا جميعا للدفاع عن نظامه في أحداث شارع محمد محمود الدامية التي قتل فيها 46 شخصا، وجرح وأصيب أكثر من 3500 آخرين.
لا أعرف توثيقا وافيا لما جرى آنذاك، لكنني وجدت عرضا طبيا لأحداث الأيام الستة على الإنترنت،ووقعت في كتاب الدكتورة رضوى عاشور الأخير (أثقل من رضوى) على لقطة سجلت جانبا من الوحشية والشراسة التي ووجه بها الثوار في تلك الفترة، فتحدثت عن تعمد استهداف إصابة أعينهم، واعتبرت ذلك «خطة ممنهجة ومكررة» استخدمت في مواجهة الثوار.
واعتمدت فيما سجلته على شهادة اثنين من أساتذة طب العيون في مستشفى قصر العيني،
وقد ذكرا أنه في أحداث 28 و29 يناير،
وفي أحداث محمد محمود ظلت إصابة الأعين «جزءا من خطة الأمن».
(بعض الرصاص كان يخترق العين مرتين. مرة من الأمام ومرة من الخلف، ثم يستقر خلف العين أو يخترق العظام ويستقر في المخ. كما بينت الأشعة المقطعية).
لست في وارد استعراض الجرائم التي وقعت في تلك الفترة والتي يشيب لها شعر الرأس، وهي التي أفقدت البعض حياتهم، في حين دمرت حياة البعض الآخر، ممن فقدوا أعينهم أو أصيبوا بالشلل الرباعي، أو بغير ذلك من العاهات والتشوهات،
إلا أنه لا يفوتني أن أسجل أن ما جرى لهؤلاء ولغيرهم من ثوار 25 يناير لم يحاسب عليه أحد، وأغلب الذين اتهموا فيها برأتهم المحاكم!
ومن المحزن أن بعض وسائل الإعلام باتت توجه أصابع الاتهام إلى الثوار أنفسهم، فأصبحوا يوصفون بالعاطلين والبلطجية، ويشار إليهم أحيانا بأنهم «مرتزقة يناير».
بل إن ثورة يناير ذاتها لم تسلم من التشويه، حتى باتت تتهم تارة بأنها مؤامرة من جانب الإخوان، وتارة أخرى بأنها مؤامرة أتت بالإخوان.
ذلك كله أصبح الآن جزءا من التاريخ الذي يتعذر التفصيل فيه في ظل الظروف الراهنة. وإن تمنيت ألا نلوثه أو نشوهه، وألا نتركه للمؤسسة الأمنية التي تكتبه على هواها، بما يبرئ ساحتها ويغسل أيديها من دماء الشهداء.
وأشدد على أن الحاضر والمستقبل هو الأهم الآن؛ لسبب جوهري هو أن الحلم لا يزال معلقا في الفضاء، ولم يتم تنزيله على الأرض بعد، في حين أننا في نهايات السنة الثالثة من الثورة،
خصوصا أن ذكرى شرارة أحداث شارع محمد محمود تحل غدا بما تستصحبه من استدعاء قوى لأهداف الثورة ومقاصدها التي بات يحيط بها ضباب كثيف؛ وهو ما حير كثيرين بحيث ما عادوا متأكدين أننا نتقدم إلى الأمام، وساورتهم الشكوك في أننا صرنا نتراجع إلى الوراء، إذ لاحت قرائن عدة أعطت انطباعا بأن الكابوس صار يتقدم لكي يحتل مقاعد الحلم.
صحيح أن ذكرى أحداث محمد محمود تنبهنا على أن المطلب الأساسى للذين احتشدوا وثاروا آنذاك لم يحسم أمره بعد، وأن القلق من حكم العسكر لا يزال واردا،
إلا أنها تكشف لنا أيضا عن حقيقة الوهن الذى أصاب الجماعة الوطنية منذ ذلك التاريخ وإلى الآن؛
ذلك أن الجماهير التي خرجت في عام 2011 لكي تطالب بإنهاء حكم العسكر، أصبحت الآن تتقاتل فيما بينها منصرفة عن الهدف الذي خرجت لأجله في البداية.
لا أنكر أن ممارسات وأخطاء عدة أدت إلى شق الصف الوطني وفجرت أسباب الصراع بين أجنحته، إلا أننى أخشى إذا ما استمر ذلك الاقتتال والخصام الأهلى أن يهزم الطرفان ويبقى نظام مبارك.
إزاء ذلك فإن التحدي الكبير الذي يواجه عقل الجماعة الوطنية المصرية، يتمثل في كيفية معالجة ذلك الصدع الخطر، بما يتيح إمكانية توظيف قدرات كل طرف لصالح كسب المعركة الأساسية؛ بحيث يصبح الوطن هو الفائز في نهاية المطاف.
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك الفوز إلا إذا تم تعزيز الصف الوطني باستنفار القوى الوفية لأهداف الثورة إلى جانب الكتل الجماهيرية التي دفعت بعيدا عن الساحة جراء حسابات خاطئة أو ممارسات خائبة.
أما كيف يتم ذلك التلاقي؛ بحيث يطوي صفحة الماضي دون أن ينساه لكي يعبر إلى المستقبل، فذلك جوهر التحدي الذي أتحدث عنه، وهو أمر ليس مستحيلا إذا وضعنا في الاعتبار أن المشترك بين جماهير الطرفين أكبر بكثير من مواضع الخلاف.
وإذا ما نجح الطرفان في الفصل بين ما هو سياسي وما هو تنظيمي، وركزا على الأول مع تجاوزهم للعامل التنظيمي.
أدري أنها عملية شائكة وصعبة لكنها عاجلة وضرورية؛ لأن السؤال المطروح على الجميع في الوقت الراهن بقوة:
هل تكون الثورة أو لا تكون؟