يبدو أن موجة الثورات التي بدأت في تونس قد أفسحت المجال لا لشيء سوي اليأس والعنف.
في الوقت الذي نحتفل فيه ببداية العام الرابع على الثورات العربية، نستعرض سريعاً الأحداث المتصاعدة في العالم العربي والتي يطلق عليها "الربيع العربي" وتداعياته. كان قتل محمد البوعزيزي لنفسه حرقاً في 17 ديسمبر 2010 وموته في 4 يناسر 2011، وما تلا ذلك من ثورة اندعلت في تونس أطاحت بزين الدين بن علي في 14 يناير 2011، الشرارة التي أشعلت سلسلة من الثورات في عمان واليمن ومصر وسوريا والمغرب.
الآن وبعد مرور ثلاث سنوات من الإضطرابات وظهور آفاق جديدة، بدا كل شيء مختلف، فقد وصل الربيع العربي إلى الشتاء العربي قبل أوانه. في مصر، تمت الإطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطياً بإنقلاي عسكري، والمقلق في الأمر مباركة كبار المثقفين في مصر لذلك.
وفي تونس، مازالت المظاهرات الحاشدة تطالب بإستقالة الحكومة التونسية بقيادة التيار الإسلامي. وفي ليبيا، تضرب القطاعات الخاصة والعامة لتطالب الحكومة بمواجهة الميليشيات المسلحة. وفي اليمن، يبدو أن تنظيم القاعدة يلقي بظلاله على الأراضي اليمنية حيث بدأ يعود من جديد.
وفي البحرين، تم اجتثاث أية آثار لمقاومة النظام الحاكم، حتى أنه لم يتم السماح لمعرض فني يصور الثورة البحرينية. أما في السعودية، فإنه يتم قمع أية احتجاجات بوحشية، وأصبحت التعديلات الدستورية في المغرب ضرب من الخيال، ومازالت العراق تعاني من العنف الطائفي، والكويت والأردن في سبات عميق وسط تلك الأحداث.
الشأن السوري
تتضائل كل الأحداث الجارية أمام المجازر المستمرة في سوريا. فالاحصائيات تصيب الجميع بالذهول. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، قُتل أكثر من 100000 شخص من إجمالي 22.4 مليون شخص سوري، وحوالي 9.3 مليون فرد في حاجة ماسة إلى المساعدة داخل سوريا، بينما شرد حوالي 6.3 مليون فرد داخل سوريا. لقد تفككت سوريا الدولة ومازال بشار الأسد موجوداً وغير مبالي بالأوضاع في بلاده. وإذا نظرنا سريعاً إلى تكوين القوى الخارجية التي تحول سوريا الآن إلى حرب بالوكالة، يتضح جلياً أن كل تلك القوى تجتمع على هدف واحد مشترك: إنهاء زخم الثورات العربية.ولقد نجحت تلك القوى في تغيير الخطاب من الإرادة الديمقراطية للشعب السوري وحولته إلى حرب أهلية واحدة. وأصبح هذا التحول في المسميات من "ثورة" إلى "حرب أهلية" أكبر خطر يهدد الثورات العربية اليوم.
الثورات زعزعة للاستقرار، والأمم المتحدة، باعتبارها مشروع إمبريالي له مصالح استراتيجية ومادية ضخمة في العالم العربي، غير راضية عن تلك الثورات التي تزعزع استقرار المنطقة وتهدد حلفائها وربما تقوي شوكة خصومها. واسرائيل هي أكثر الأطراف المتضررة من هذا المد الثوري، فقد اعتمدت طوال مشروعها الاستعماري على الحكام العرب الفاسدين أمثال الحكام الذين أطاح بهم الثورات العربية.
وهذه الدولة العنصرية تفضل الحكام الطغاة أمثال الأسد على الحركات الديمقراطية الفوضوية الجارية في مصر وتونس على سبيل المثال. من جهة أخرى، تعارض المملكة العربية السعودية، الحيلف القوي للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، هذه الثورات.
وهذا أمر طبيعي بالنسبة لنظام ملكي رجعي بلا مؤسسات ديمقراطية لا يسمح مطلقاً بمعارضة هذا الحكم القبلي، ومن ثم تعارض المملكة أية ثوارت شعبية من شأنها فضح نظامها السياسي الظلامي القمعي. ومن المثير للعجب توحد إيران والسعودية في نفس المسعى؛ فبعد أن اكتسبت إيران ثقافة سياسية عالمية واسعة، وقضت على منافسيها الأيديولوجيين في أعقاب الثورة الإيراينة 1977 – 1979، لا يشعر القائمون على الجمهورية الإسلامية بالرضا تجاه هذه الموجه من الثورات.
في بداية الأمر، وصفت تلك الثورات بـ "الصحوة الإسلامية"، ولكن عندما ثار المصريون ضد الإخوان المسلمين، وعى الإيرانيون الدرس واتاحوا الفرصة لحسن رحباني، من التيار المعتدل، ليصبح رئيساً للبلاد وبدأوا في التفاوض مع "الشيطان الأكبر" لضمان مستقبل أفضل.
هل تركيا التالية؟
في تركيا، تتخفى الدولة العميقة بنجاح وراء الواجهة الديمقراطية سعياً لتحقيق هدف واحد وهو أن تصبح بصمتها السياسية لاعباً أساسياً في المنطقة لتحقيق مصالحها بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة حيث تتحالف مع إسرائيل، وتنكر الإبادة الجماعية للأرمن، وتقمع المطالب الكردية للحكم الذاتي، وتشارك مباشرة في المشاريع العسكرية لحلف النيتو في منطقة البحر المتوسط، وتركز وتسعى في كل أزمة لتحقيق مصالحها القريبة والبعيدة. ونجاح الثورات العربية يمكن أن يصبح مثالاً للتمرد يحتذي به الأتراك، كما شاهدنا في أحداث حديقة غيزي.
روسيا والصين حليفين استراتيجيين في انتهاز الفرص، لكل منهما طريقة مختلفة ولكنهما تكملان بعضهما البعض، فالأولي تهمتم بالجانب السياسي والثانية الجانب الإقتصادي. لا يجمع بين هاتين الدولتين أية قضايا ثورية ولكن كلاهما يساوم الولايات المتحدة الأمريكية ويتفاوض معها ليحظيا بنصيب أكبر من الكعكة في أي صراع أو فوضى تنشب.
قد يبدو ظاهرياً أن هذه الدول على خلاف، ولكنها في الحقيقة تتحد لعمل كل ما يمكن لتحويل تلك الثورات عن مسارها؛ الأمر الذي يتضح جالياً في الشأن السوري حيث نجحت المصالح المشتركة لكل تلك القوي في تحويل الثورة الشعبية الديمقراطية إلى حرب أهلية بين طرفين سيتم فصلهما والبت في أمرهما.
وكما ساعدت إيران وروسيا وحزب الله الأسد من جانب، تساعد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول أخرى في الخليج جيش كامل من المرتزقة تحت شعار إسلامي.
جميعهم مرتزقة ولن يمحى أي وصف اسلامي لهم هذه الحقيقة. فالحرب بين السنة والشيعة ما هو إلا إدعاء كاذب.
والمعركة بين المملكة العربية السعودية وإيرن، بدعم من روسيا من جانب والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جانب آخر، ما هي إلا وهم لتشتيت الانتباه بعيداً عن القضية الحقيقية ألا وهي الثورات العربية.
لقيت الثورات العربية منذ البداية نوعين متباينين من ردود الأفعال، حيث اعتقد البعض أن الأمر برمته ما هو إلا أحداث عابرة وستنتهي أو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استغلت بعض الشباب وتلاعبت بهم؛ والبعض الآخر استثمر هذه الثورات وهم يعلمون أن الطريق مليء بالعثرات ولكنهم متفائلون لأبعد الحدود.
ليس الوضع بالأمر الهين، فلن تستقر الأمور بعد 2011 بين عشية وضحاها، فقد ظلت البشرية حوالي 200 عام أو أكثر تحت وطأة الأنظمة المستبدة المحلية والإمبرالية الآوروبية حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن بعدما اضرم البوعزيزي النار في نفسه.
صحيح أننا لن نحتاج إلى 200 عام أخرى حتى تأخد الأمور مسارها الصحيح، ولكن في ذات الوقت لا يمكن أن تتخلى القوى المعادية للحركة الثورية، واشنطن وتل أبيب والرياض وطهران، ببساطة وتختفي من المشهد.
استغلال التنظيمات المدينة
يجب أن تنبع مقاومة تلك القوى الإقليمية والعالمية اللثورات من الداخل من الشعب السوري نفسه ورغبته في التحول نحو الديمقراطية. وبالتالي حان الوقت لتشكيل الجمعيات التطوعية والاتحادات العمالية ومنظمات حقوق المرأة والجمعيات الطلابية. في سوريا، كما في أماكن أخرى، والمتوحشون التي يتم جمعها حول الأسد أو البلطجية المرتزقة من بين الذين يقاتلون معه غير قادرين على حكم قاطع مجتمع متحضر. السوريين، مثل بقية العرب والمسلمين، ويجب أن يكون مشغولا ترجمة الإرادة المتحضرة من انتفاضته الديمقراطية في المؤسسات المقاومة للاستبداد – في الوقت الراهن، وأولئك الذين لا يعرفون سوى لغة العنف هي تشويه سمعة مشغول وتدمير بعضها البعض
. لم تعد الجماعات الوحشية التي تتجمع حول الأسد أو البلطجية والمرتزقة الذين يقاتلون من أجله، قادرة على حكم مجتمع متحضر قطعاً.
لذا يتعين على السورين مثل غيرهم من العرب والمسلمين التركيز على ترجمة الإرادة المتحضرة لثورتهم الديمقراطية إلى مؤسسات تقاوم الظلم والطغيان على الفور، لأن من لا يعرفون سوى لغة الغنف مشغولون بشوية وتدمير بعضهم البعض.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى قضية الأكراد وهي قضية مهمة فأمام الأكراد السوريين فرصة تاريخية لتقديم نموذج للتغيير الديمقراطي إذا أغلقوا الأبواب أما أي طرف يستغل تطلعاتهم إلى دولة كردستانية موحدة.
إذا تخلي الأكراد عن هذا الحلم ووجهوا تطلعاتهم المشروعة نحو الإرادة الديمقراطية للشعب الكردي الذي أصبح ممزقاً الآن في إيران وتركيا والعراق وسوريا، سيصبحون لاعباً أساسياً في تغيير مجريات الأمور.
تلقى الكارثة السورية بظلالها على الثورات العربية، حيث أصبحت مبرراً لكل الدول من أفغانستان وحتى إيران والمغرب للقول بأن هذه الثورات كانت عبثاً، وأن الأنظمة الحاكمة بكل أعمالها الوحشية كانت أفضل من هذه المذبحة.
وهذه بالطبع مغالطة فالخيار لم يكن أبداً بين المذبحة التي نشهدها في سوريا والنخبة الفاسدة والدولة العميقة التي تحكم من المغرب إلى تركيا، ومن أفغانستان إلى إيران والمملكة العربية السعودية.
لقد كان الخيار بين إرادة الشعبة وانتفاضتهم الثورية المؤامرة التي قامت بها القوى المضادة للثورة لإنهاء تطلعات الشعوب.
بين هاتين القوتين، تغيرت الحسابات الخاصة بالإرادة الديمقراطية للشعب بأسرة والبالغ 422 مليون عربي و1.3 مليار مسلم، بلا رجعة، واصبحت حسابات التحرر هذه هي قوة الدفع الرئيسية في تاريخينا المعاصر، ولن يحدث عكس ذلك.