منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلن خطورة ظاهرة الممارسة السياسية الخاطئة لأصحابه، ويتعامل معها بما يليق؛ حتى لايختل مفهوم التصور الإسلامي بشموله عند الناس.
فها هو يقول عليه الصلاة والسلام للصحابي الجليل المجاهد العابد الزاهد خامس خمسة في الإسلام: " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفًا ، وإني أُحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ، ولا تولينَّ مال يتيم" رواه مسلم.
وفي قصة البئر كما في صحيح مسلم، أن عمر بن الخطاب كان يجذب جذبة أو جذبتين، بينما كان أبو بكر يجذب من البئر مرة واحدة!
وذكر شراح الحديث أن المقصود: بيان قوة عمر وتحمله وفتوحاته، وماتطلبه من مواقف سياسية تميز بها.
بل وحتى في المشورة السياسية التكتيكية كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل على رأي أصحاب الخبرة والحنكة والدهاء، كما في قصة الحُباب بن المنذر في الخندق، ورأي السَّعدين في خيبر.
ولذلك فإن هذه الظاهرة البشرية امتدت بطبيعتها على الشيوخ والعلماء والمفكرين لأسباب موضوعية سيأتي بيانها.
ومن أهم هذه الأسباب:
1- الخلط بين الرأي الشرعي والموقف السياسي:
فبعض الشيوخ يحمل في جعبته بعض الأدلة، ويتابع بعض الأخبار السياسية، ثم يزاوج بينها؛ ليخرج برأي وموقف في آن واحد!.
فالرأي يدعمه بما يقوله من أدلة شرعية كونه شيخًا، والموقف والنتيجة يدوي بها ويطالب بما فيها كونه عارفًا بالواقع، مستنداً لدليل!
وأكثر هؤلاء الشيوخ لم يجلسوا مستمعين بإنصاف وعقل وموضوعية مع من يعنيهم الكلام!
ومثال ذلك: أن يتحدث واعظ عن حماس ثم يتبعه قارئ بنفس الكلام، وأن (حماس) رمت نفسها في أحضان إيران، ثم لايتورع وهو الواعظ أو القارئ للقرآن أن ( يتبين ) الحقيقة وهي معروفة أصلاً عند السياسيين، ولكن لكونه يدعي فهم السياسة غاب عنه أو تجاهل أن ( حماس ) لم تفتح في عهد ولايتها ولا أماكن نفوذها حسينية واحدة، ولا مركزاً للشيعة!
وأن (حماس) تركت مصدر قوتها في سوريا – التي كانت تصنع فيها أسلحتها – من أجل موقف الحزب البعثي الموالي لإيران من الثورة السورية، وأن (حماس) لم تتلق الأموال الداعمة لقضاياها السياسية والإعلامية من إيران بسبب هجرتها لله ورسوله، وخروجها من سوريا في أوج عزة حماس!!
أبعد كل هذه الحقائق غير الخافية يتشيطن بعض الشيوخ والوعاظ فينسفوا جهاد الفلسطينيين، وحفاظهم على وحدة المجتمع السُّني رغم حصار الأقرباء وفجور الأعداء؟!
ثم وهم الوعاظ والقراء ألم يسألوا أنفسهم عن بلادهم التي فيها يسكنون؟ ألا تتعامل حكوماتهم وولاة أمورهم عيانًا بيانًا مع إيران؟ لم يغلقوا لها سفارة، ولم يمنعوا معها تجارة، ولم يوقفوا لمواطنيها وسياسييها رحلة سياحية فضلاً عن غيرها؟!
أجهل هؤلاء مايجوز وما لايجوز في السياسة والأخلاق؟!
بأي مقياسٍ يتعامل هؤلاء الوعاظُ والقراء؟ ومن أي مصدرٍ خفيٍّ لا يعرفه العالم يستقون معلوماتهم العجيبة هذه؟ ومن يظنون أنهم يخاطبون؟
ثم العجب أن يقال عن هذا بأنه رأي!!
فهل انتقاص المجاهدين ووصمهم بالعمالة مع إيران، وعدم التعريض أو التلويح بأي خير فيهم مجرد رأي؟!
وصدق الله: ( فماذا بعد الحق إلا الضلال).
****************
2- تقليب الأدلة الشرعية حسب المواقف السياسية:
أي إنهم يقلبون الأدلة بحسن نية في ظنهم حسب مزاج الشارع والسلطة، لاحسب مبادئ الإسلام وقواعد الشريعة الراسية.
فأنت تعجب من صمت مطبق كالقبور لبعض الشيوخ في كل فواجع الأمة، ثم تجدهم فجأة استيقظوا ورصوا الأدلة ضد حاكم، أو فصيل إسلامي، أو شخصيات علمية شرعية معتبرة. ولايجدون غضاضة في حشد ما استطاعوا من أدلة لرأيهم وانتقاص مخالفيهم والتشفي منهم، فإذا دارت دائرة أخرى حولهم قلبوا الأدلة وحركوا أدوات الفهم تأويلاً وخنقًا لروح النص!
وهم لمن تأمل لايظهرون ولاينطقون إلا في حالين: إن حام حولهم مايقلب مزاجهم، أو زال مايعكر صفو رأيهم.
ورحم الله ابن المبارك وهو يقول عن أمثال هؤلاء المتمشيخين:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها
والسؤال الغريب: لماذا لايظهر هؤلاء الشيوخ إلا في حالات محددة، ثم يبيتون عن أحداث أخطر وأكثر أهمية. فهل ياترى هم من يتحرك حسب ظروفهم أو مصالحهم، أم حسب مايُملى عليهم؟!
***************
3- الحسابات الشخصية وبيئة الحياة الجديدة:
إن ظاهرة التحول قد تكون عند بعض الشيوخ والطيبين بسبب أزمات خاصة يمرون بها، ومجتمعات جديدة أحاطت بهم على المستوى الرسمي والاجتماعي أدت بهم للتحول البعيد عن الواقع والموضوعية، وقلة منهم عن عجلة قبيحة، واستعلاء وفخر، أو تحرش شيطاني على إخوة له وأنصار، وهؤلاء رغم إدانة فعلهم إلا أن سرعة تقلبهم تعرف الجمهور بهم بسرعة!
وبالعموم فإنه بحكم قدرة هؤلاء الشيوخ على تكييف أصول الفقه، واستثمار الخطاب الشرعي الذي بثوه للجمهور العريض، وإدراك مصالحهم بل وحتى أحيانًا مكتسباتهم الإسلامية عبر مؤسساتهم التي يديرونها فإنهم يقرأون مستقبلهم على حساب بعض الكلمات والفتاوى التي تعبر بدون أدنى شك عن غاية ما لمن يَحسبون لهم حسابًا!
ومالم يُقرر هؤلاء الشيوخ أن يستمعوا ( لعدة أصوات) قريبة وبعيدة تتحلى بفقه الشريعة وفقه السياسية فإنا سنسمع منهم ومن تلاميذهم ومن انطبقت عليه الظاهرة مالم نسمعه من اليهود ومشركي قريش!
***************
4- قلة الموضوعية والأدب:
نعم، وبدون مجاملة قد تجد هؤلاء في غاية الرقة والأدب والموضوعية، فإذا تحولت أفكارهم تحولت أخلاقهم؛ ثم لاتعجب أن تسمع منهم أو تقرأ لهم شتمًا ونقيصةً لمن كانوا لهم تلاميذ بل أحفاد تلاميذ!
وتتساءل: أما كنتم تبكون عند ذكر قصة في الغيبة، ثم تبكون عند ذكر قصة في الأدب مع الصالحين؟!
أبلغت بكم رقتكم ألا تجدوا تعبيرا لرجل قرآني ومفسر للقرآن، أو فقيه للأمة إلا بأنه ( الإخواني) أو ( الجاهل)، ولم تسمح حروف اللغة التي تحفظونها أن تجمعوا منها كلمة مؤدبة تؤكد أصالتكم، وثبات منهجيتكم؟.
ثم ألم تجدوا تعبيراً تفسرون به مانسمعه منكم من كتاب ربكم:
( وقولوا للناس حسنا)، وقوله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلوا)، وقوله عز شأنه: ( ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
أهو القرآن أيها الشيوخ والقراء، أم تصفية الحسابات وتقدير المصالح المتقلبة؟!
وبعد كل ماسبق هل سيأتي من يقول لنا من يقول: إن ماقالوه مجرد رأي؟!.
(إن أكبر الحماقة أن تُقرأ الظواهر الكبرى بأسبابها وآثارها واندفاعتها على أنها آراء، في حين تُترك أبعادها وأحداثها تجلجل في النفوس والمجتمعات بكل سخافة!).
******************
5- عدم الفصل بين فقه الشيوخ وسلوك الشيوخ:
وهذه إحدى أسباب نكبات الأمة في التقديس والتعظيم لرموز ظنت أنهم يطبقون بالضرورة مايقولون ثم يفاجأ الناس بأنهم أصناف:
فمنهم من هو مع السلطة حيث ولت ولو قتلت الأقارب والأباعد من المسالمين لأن المصلحة تقتضي ذلك، ومنهم: من يجعجع بالنقمة على الظالمين وينسب بالزور بعض الصحابة العدول الكرام إلى طغاة الزمان، ثم هو كالنعامة يدفن لسانه عند أعوان الشيطان، وأفاعي إيران، وعمائم السلطان، ومنهم: من تترس بأنه من أكابر العلماء الموسومين بأعلى المناصب؛ ليخون علماء كباراً وفصائل صالحة بأنها لاتصلح للسلطة ولا للولاية الشرعية، وهو لايعرف الفرق في السياسة بين التين والزيتون!
*******************
6- القدرة على ذرف الدموع ونقض العهود:
من الطبيعي أن يعجب المثقفون من هذا فكيف بالعامة؟!
كانوا شيوخًا يدمعون تصوفًا وشوقًا للرسول وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يُكتشف من المواقف العلنية ومايتبعها من فضائح لائحة علاقتهم بالاستخبارات الغربية والتعاون مع أصحاب القلنسوات الصهيونية!
وآخرون من أصحاب الثياب القصيرة واللحى الطويلة مردوا على النفاق وباسم الإسلام زعموا يحافظون على الشريعة ولايجدون مدخلاً للفاجر ولاحرجاً مع القاتل والعاهر إلا أن يضعوا يدهم في يده: ليحافظوا على شريعة الله، وقد نقضوا بفعلهم عهدهم وميثاقهم مع الله!
أبعد كل هذا لايحق للمجتمع الحر، والشباب الواعي، والأمة اليقظة، أن تفرز مواقف الشيوخ والوعاظ والقراء بكل مسمياتهم وتشكلاتهم ومصالحهم الذين أصابوها في مقتل يوم احتاجت لهم؟
أبعد كل هذا يكون الجاني هو من أغلظ عليهم القول، وكأن الحصانة لهم كختم المعصوم الشيعي في قُم؟!
إنه بعد كل الإدراك والوعي والبصيرة بخطورة هذه الظاهرة واستيعابها، يصح أن نقول: لاتنسوا أن من هؤلاء الشيوخ والوعاظ والقراء من كان ولايزال فيه بقية خير وفقه ووعي، يمكن الرضا عنها، وتقديرها، ورجاء أن ينفع الله . وصدق الله جل في علاه إذ يقول: ( فمن أحسن فلنفسه ومن عمي فعليها وما ربك بظلام للعبيد).