بقلم: د.جمال عبد الستار
منذ إسقاط الخلافة الإسلامية سنة 1924م توقف جهاد الفتح (أي جهاد الأعداء في ديارهم)، ومن وقتها والأمة لا تعرف إلا جهاد الدفع (وهو كما قال ابن تيمية: دفع الصائل الذي يفسد الدنيا والدين، لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وهو متعين على كل إنسان بما يستطيع).
وكان جهاد الدفع منصباً على الاحتلال الأجنبي الذي استطاعت الأمة أن تكبده أعظم الخسائر، فجادت قريحة الاحتلال بفكرة جديدة تتمثل في ترك البلاد لوكلاء يقومون بمهمته من أهل البلاد، بدلا من أن يتركها لأهلها، فكانت صناعة الـزعماء، والأنظمة، وصناعة النجوم الذين يقومون نيابة عن الاحتلال بإحباط ثقافة الجهاد، والركون إلى السكون والدعة والاستضعاف.
الوكلاء الذين يكرسون التبعية للغرب، والإذعان لثقافته ومناهجه على حساب الثقافة الإسلامية والمناهج الإسلامية،
فكان كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، وصدام حسين، وحافظ الأسد، والقذافي، وعبد الله صالح، والملك حسين، وأبو رقيبة، وانتهاء بالسيسي، وغيرهم الكثير.
قام هؤلاء بجهود جبارة لتغريب الأمة ومحو هويتها، وتحويلها بالتلبيس والتجهيل والتغريب إلى مسخ لا طعم لها ولا رائحة، واستخدموا شيوخاً ورموزاً دينية لتلميع صورتهم عند الشعوب، وإقناعهم زورا وبهتانا بعمق تدينهم، وعظيم مكانتهم، ووجوب طاعتهم، رغم رفعهم جميعا لرايات تبتعد كثيرا عن تعاليم الإسلام، كالقومية والاشتراكية والشيوعية والعلمانية، وغيرها.
واستطاع هؤلاء أن يفرغوا الأمة من معالمها الرئيسية، وأبرزها الجهاد، حتى وصل هذا الخواء إلى فكر كثير من العلماء والمصلحين والتيارات الإسلامية، إلى أن اختفى الجهاد قولا وعملا.. اختفى الجهاد فكراً وتطبيقا.. اختفى الجهاد إعداداً ومواجهة.
ولو سألت نفسك متخيلاً: ما الذي يمكن أن يدفع الأمة لإعلان الجهاد؟ هل ستجاهد الأمة إذا احتُلت بعض بلادها؟ لا أعتقد ذلك.. فها هي فلسطين والعراق وأفغانستان وبورما وتركستان الشرقية، وكانت البوسنة والهرسك وأذربيجان والشيشان، وغيرها الكثير والكثير.. فهل جاهدت الأمة؟!!! بل ألم تشارك بعض الدول الإسلامية في تمكين العدو من احتلال تلك البلاد؟!
هل تجاهد الأمة إذا تم الاعتداء على أموالها أو دينها أو عرضها؟ أو سفكت دماء المسلمين؟
بالله عليك قل لي ما الذي لم يحدث للأمة من كل هذه الجرائم؟! والأمة كما هي لم تتحرك، فما الدماء التي تسفك ليل نهار إلا دماء المسلمين.. وما الأعراض التي تنتهك إلا أعراض المسلمين.. وما الثروات التي تنهب إلا ثروات المسلمين.. وما الدين الذي يحارب ليل نهار غير الإسلام؟! بل إنك ستجد من تجار العلم من يفتي بحِلّ كل هذا الفساد..
هل ستجاهد الأمة لو أن إيران احتلت السعودية مثلا؟ أعتقد أن ذلك لن يحدث، لأنه لم يُعد أحد لمثل هذا اليوم عدته.. وما الفارق بين السعودية والعراق؟ فقد تم احتلال العراق بمباركة ومشاركة العرب والمسلمين، وتم احتلال سوريا كذلك بمباركة ومشاركة بعض العرب والمسلمين، وتم احتلال اليمن كذلك بمباركة ومشاركة بعض العرب والمسلمين.. فما المانع من تكرار ذلك في مصر، أو غيرها بمباركة ممن تبقى من العرب والمسلمين.
هل سيجاهد السيسي.. أم حفتر.. أم الإمارات.. أم الأردن.. أم من؟!
بل ستجد من علماء الضلال من يقول إنهم يستحقون، ويذكر لك مبررات عدة!!
أقول متأسفا: حتى لو هدم الأعداء المسجد الأقصى، أو حتى الكعبة.. فمن تراه سيجاهد؟! ومن أعد لذلك اليوم عدته؟!
اللهم إلا تلك الثلة المباركة في فلسطين من المجاهدين الأبطال وغيرهم في كل بلاد الإسلام، ولذلك يحاصرهم وكيل الصهيونية في مصر.
ولذا أنادي بل أصرخ في الأمة كل الأمة، خاصة في العلماء والرواد: أن أعيدوا للأمة شرفها فقد أصبحت بلا شرف، أن أعيدوا للأمة هويتها فالأمة في حالة اعتداء من الأعداء ووكلائهم لم يسبق لها مثيل، وتستعد المنطقة لصراع مرير لا مكان فيه لأصحاب الرايات البيضاء.. ولا مكان فيه لمن لم يعد لهذا اليوم عدته.
وجيوش الوكلاء لم تُصنع لنصرة البلاد والعباد، وإنما صُنعت لنصرة من صنعوها فقط، وأكثر التيارات الإسلامية تنطلق منطلقا فكرياً تنظيميا أكثر من كونه منطلقا شرعيا تأصيليا، بل لم يصبح لأهل العلم بينهم مكانا إلا فيما ندر!
فمن الموكل الآن بإعداد الأمة وتهيئتها؟ ومن المسؤول عن حفظ الدين وحمايته؟ ومن المعنِيّ بقيادة الأمة وحفظ هويتها إذا خان الحكام؟ إلا العلماء..
العلماء الذين أخذوا تفويضاً من الله تعالى للتوقيع عنه سبحانه.. العلماء هم المخاطبون الآن بهذا الواجب.. هم المخاطبون بوضع الخطط.. هم المخاطبون بإعداد القوة.. هم المخاطبون بحشد الأمة وإعادتها إلى دينها.
نحتاج إلى علماء ليقودوا الأمة بعلمهم لا بشخوصهم.. وبدينهم لا بأطماعهم.. وبالمنطلقات الشرعية لا بالمنطلقات الحزبية أو الأيدلوجية.. فخروج الأمة من هذه المآسي الرهيبة لن يكون إلا بالجهاد في سبيل الله.. ولا مجال لتحقيق هذا الركن إلا بالعلماء.
فكيف يتحقق هذا؟ ومتى يتحقق؟ وأين؟
هذا حديثنا القادم بإذن الله تعالى.