كانت في الستين من عمرها، لم تتزوج، تبدأ يومها مع صلاة الفجر، توقظ والدتها الطاعنة في السن للصلاة، وبعدها تجلسان حتى تشق الشمس لنفسها طريقًا في السماء، لتنطلق الرحلة اليومية.. تغيير أوعية مياه طيور الحظيرة، وإطعامها، وجمع حصيلة البيض، ومع دفء الشمس، تسقي زرع الحديقة، بضع شجرات ليمون، وأحواض نعناع وبعض الخضراوات للمائدة.
قبيل المغرب، تقوم بالرحلة نفسها، وعقب العشاء، صلاة وطعامًا، ينتهي اليوم بالمسلسل العربي.. في تلك الليلة الباردة نوعًا ما من العام 1996، كانت الحلقة الأخيرة من مسلسل “خالتي صفية والدير” المأخوذ عن رائعة بهاء طاهر بالاسم نفسه. كان المسلسل مفعمًا بتراجيديا تسيل الدمع وتصعق القلب كمدًا، خصوصًا مشاهد جلد ممدوح عبدالعليم (حربي)، ومشهد جنازته المؤثر بلا حدود.
روعة النص وبراعة السيناريو والإخراج، وتدفق ممدوح عبدالعليم بالموهبة، والتألق في الأداء، جعل الحلقة الأخيرة من المسلسل مأتم عزاء، يمخر عباب القرى والنجوع، بامتداد النيل، من أسوان إلى رشيد، ولا مبالغة في القول إن أصوات نحيب بعض مشاهدي حلقته الأخيرة الحزينة كانت تطغى على أصوات الممثلين، فجلست تلك التي تبدأ يومها بالنعناع والطيور تبكي وتنتفض كمدًا مع وقائع موت البطل (حربي)، وإن هي إلا دقائق حتى غابت عن الوعي، وحين وصل طبيب القرية الذي استدعوه على وجه السرعة، كانت روحها قد صعدت إلى بارئها، إثر سكتة قلبية لم تتحملها.
كل ما سبق حدث بالفعل، وعايشته، وتوارى تحت ركام الذاكرة المرهقة بالأحداث والوقائع، طوال عشرين عامًا، ووجدته يتحرك أمامي، مع الإعلان عن وفاة الفنان ممدوح عبدالعليم، بالسكتة القلبية أيضًا، وهو في عمر يناهز عمر تلك المشاهدة الطيبة التي صدّقته، وانفعلت بأدائه في مسلسل الموت.
يمكن لمن يفضّلون مصارعة الموتى، بقوانين الأحياء، أن يستخدموا هذه المفارقة لتغذية ماكينة الشماتة، وتصفية الحسابات مع الراحلين، غير أني لم أقصد ذلك من سردها، بل قصدت الذهاب إلى تلك التشوّهات المخيفة، التي أصابت “الإنسان” في مصر، بعد انقلابٍ، أراه ارتدادًا عن الفطرة الإنسانية، قبل أن يكون انقضاضًا من “عسكري”، أو مجموعة عساكر، على سلطة، وفتكهم بثورة كان عنوانها “الكرامة الإنسانية”.
ذلك الإنسان الذي كان يموت بعضه حزنًا على ظلم شخصيةٍ تقفز من مخيلة روائي قدير إلى شاشة التلفاز، ثم جعلوه يرقص على موسيقى فرح صاخب، ويطلق زغاريد التشفي، حين تمر أمام بيته جنازة جاره، شهيد فض الاعتصامات الذي قتلته السلطة التي يؤيدها الجار الراقص.
ذلك المخلوق، الفنان، الأديب، الشاعر، الذي كان يموت حسرةً على هزيمة شعبه، أخلاقيًا وحضاريًا وقيميًا وإنسانيًا، ثم أصبح منتجًا للقبح وللرداءة وللانحطاط في المفاهيم والقيم والمثل، ومحرّضاً لشعبه على الانسلاخ من حالته الإنسانية، الطبيعية، لينتقل إلى عالم الوحوش والضواري والأوغاد.
أمس، مات الفنان حمدي أحمد، وقبله رحل ممدوح عبدالعليم، بكل ما في سجلهما من حسنات وسيئات، وميزات وعيوب، وباتا بين يدي عزيز مقتدر، فانطلقت مضخات شماتة وتشفٍّ، وانتقام، من “اللا أحد” و”اللا وجود” باستمتاع غريب، ولا أدري ما هي المتعة في منازلة راحليْن، ومقاتلة ميتين؟
وما الفائدة التي ستعود على”الحراك الثوري”، حين يستسلم نفر من “المشتغلين به” للذة هجاء جثثٍ في القبور، وأرواح عند خالقها؟.
يؤسفني أن أقول إن معسكر الثورة يخسر كثيرًا؛ حين يتخلى عن مساحاتٍ إنسانية وحضارية، تغوي قتلة وسفاحين وسافكي دماء ونابشي قبور وناهشي جثث، من أوغاد مؤسسة الانقلاب، على منابر الإعلام والأوقاف، لكي يظهروا في أردية الإنسانيين الأخلاقيين المتحضرين، ويتحدثوا عن الفضائل، بينما هم، في الأصل، أصحاب براءات اختراع كل الرذائل.
مرّة أخرى، لا تنزلوا إلى مستنقعاتهم.. لا تبدّدوا إنسانيتكم في مبارزة الموتى، مهما كانوا في حياتهم، فالمعركة مع أوغادٍ على قيد الحياة، يستثمرون في التوحش، ويضاربون في بورصة الانحطاط والوضاعة، ويُغرقون الناس في ظلمات البذاءة.