من يومين وبعد شادي حسين ما نشر الفيديو بتاع الكاندمز والشرطة في التحرير رحت على صفحته على “فيس بوك” وكتبت التعليق الآتي: “شادي، أنا قلت لك قبل كده قد إيه أنا معجب بشغلك، وإعجابي زاد بالفيديو الأخير. أهم حاجة كمل شغلك، وعبر عن رأيك بخفة دمك وشجاعتك، واعرف إن الناس بتحترمك وتقدرك”.
ونتيجة لحالة الاستقطاب الحادة اللي في المجتمع، وبرضه نتيجة للطبيعة الإشكالية للفيديو ومحتواه، وصلتني تعليقات كتيرة (كلها مهذبة والحق يقال)، تنتقدني على موقفي المناصر لشادي. وكان فيه تعليق بعينه يستغرب بعد ما كتبت اللي كتبته في كل رجال الباشا وانتصاري للجنود في جيش محمد علي، آجي النهاردا واسمح بالإهانة اللي شادي وجهها لجنود الشرطة في التحرير.
أنا حبيت أرد على التعليق دا، لكن للأسف صاحبه مسحه، بالرغم من وجاهته. فبالتالي أنا باكتب هنا الرد اللي كنت أحب أرد بيه على صاحب التعليق الممسوح.
أنا صحيح منتصر لموقف الجنود في الشرطة وفي الجيش، وقت محمد علي وفي الوقت الحاضر. وفي كتابي حبيت أوضح الأسباب الهيكلية اللي خلت جنود جيش محمد علي يعانوا ويتبهدلوا البهدلة اللي اتبهدلوها. وكان غرضي من ورا دا إني ألتف ورا الخطاب القومي وأعرض الصورة الحقيقية لمعاناة الجنود وأبين التكلفة اللي بيدفعوها علشان النخبة التركية الحاكمة تنعم بخيرات البلد.
بالمعنى دا، أنا مش شايف إن فيه تناقض بين موقفي بخصوص جنود جيش محمد علي وموقفي إزاد جنود الشرطة اللي شادي اتصور معاهم.
تعالوا نستعرض المشهد التالي مع بعض. فيه وثيقة من الوثائق اللي قرأتها تتعلق بالخطوات الأولى لتأسيس جيش محمد علي. الوثيقة دي فيها تعليمات من الباشا لمكافأة جندي حديث التجنيد على اتباعه التعليمات بالحرف، وإنه في أثناء مهمة كُلف بيها الآلاي (أي اللواء) بتاعه، الآلاي الرابع (علي ما اتذكر)، لإخماد ثورة عارمة في إسنا قام بيها آلاف الفلاحين، المجند دا لقى أبوه من ضمن الثوار فصوب بندقيته تجاهه وقتله.
الواقعة دي استوقفتني واستدعت مني شهور من البحث: إزاي ممكن نفسرها؟ إزاي نفسر إن مجند يقتل أبوه تنفيذا لتعليمات؟ (بالمناسبة دي : إزاي نفسر موقف أب يتبرأ من ابنه علشان نكتة؟).
إحنا هنا أمام نظام قمعي بيستخدم آليات عنف مهولة استطاعت إنها تحول الإنسان لترس في آلة. دا حصل إزاي؟ إيه الآليات اللي ممكن تؤدي إلي فعل منافي للطبيعة زي الفعل دا: شاب يقتل أبوه تنفيذا لتعليمات؟ الفصل التاني من كتابي كان محاولة للإجابة على السؤال دا.
أظن إن واقعة شادي تستدعي تحليل مماثل. المجند طبعا غلبان، زي ما كتير من اللي هاجموا شادي قالوا. وهناك بُعد طبقي واضح، برضه ما فيش شك في دا.
لكن فيه هنا سؤال أساسي شادي نفسه سأله اعتقد بحكمة متناهية في مداخلة عفوية في برنامج بتوقيت مصر اللي أنا كنت ضيف فيه امبارح: هم إيه اللي وداهم هناك؟
أنا ما أعرفش شادي كان قصده إيه بالضبط بالسؤال دا، لكن أنا كان في ذهني نفس السؤال: هم إيه اللي وداهم هناك؟
أنا مش قصدي بس الشرطة وانتقامها للثورة والثوار يوم ٢٥ يناير ونزولها التحرير وتقفيلها للميدان نكاية في الثورة في عيد الثورة.
أنا قصدي المجندين دول تحديدا. إيه اللي وداهم هناك؟ دول مجندين غلابة. صحتهم على قد حالهم. تعليمهم برضه على قد حالهم. سايبين بلادهم وأهلهم في الأرياف ويمكن في الصعيد وجايين التحرير. هم أيه اللي وداهم هناك؟
فيه خلل جوهري في طبيعة تكوين قوات الأمن المركزي وفيديو شادي عبر عنه وفضحه.
وتعالوا نسترجع أصل قوات الأمن المركزي وتاريخها.
فكرة إنشاء قوات الأمن المركزي بدأت بعد مظاهرات الطلبة في فبراير ١٩٦٨ وبعديها في نوفمبر من نفس السنة. الطلبة ومعاهم قطاعات كبيرة من الشعب نزلوا الشارع اعتراضا على الأحكام المخففة الل نالها قادة الطيران اللي تسببوا في كارثة يونيو ٦٧.
المظاهرات كانت ضخمة وطلعت من الجامعة وامتدت لشارع قصر العيني متجهة للتحرير. وبالإضافة لحجم المظاهرات، اللي قلق السلطات وقتها إن المظاهرات كانت بتطرح أسئلة في حقيقتها صعبة ومش متعلقة بسلاح الطيران وقادته بس، ولكن بتتناول الأسباب الهيكلية للهزيمة المروعة دي.
قوم إيه؟ قوم هيكل يصيغ شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ويطالب الشباب إنه يلتفت لدروسه وما يوديش البلد في داهية (علشان البلد طبعا ما كانتش في ستين داهية بالفعل)، وإن الوقت مش وقت ديمقراطية علشان إحنا لازم نزيل آثار العدوان.
الأهم من كلام هيكل كان انتباه نظام عبد الناصر لإن دي أول مرة الناس تنزل الشارع من سنة ٥٤، وإن الناس نزلت اعتراضا على عبد الناصر مش تأليه ليه. وانتبهوا أكتر لضرورة تشكيل قوة تبع الداخلية تكون أكفأ من قوات الشرطة التقليدية في مكافحة الاعتراضات الحضرية، وبمعنى آخر في فض المظاهرات.
دي أصل فكرة إنشاء قوات الأمن المركزي: إحساس النظام بضرورة بناء قوة مدربة تدريب عسكري، غرضها الأساسي طبعا مش حماية المتظاهرين أو تأمين المظاهرة أو تفعيل مبدأ حق الشعب في التعبير عن رأيه، وإنما حماية النظام عن طريق وأد أي محاولة للتجمع والتظاهر.
القوات دي كانت تبع الداخلية من الأول لكن أعتقد إن في أول سنتين كانت تتلقى تدريب عسكري في معسكرات الجيش (إنما بصراحة أنا مش متأكد من المعلومة دي). اللي متأكد منه إن القوات دي هي اللي تصدت لمظاهرات الطلبة بتاعت ١٩٧٢ واحتلال ميدان التحرير سنتها. وهي اللي تصدت لمظاهرات ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، وهي اللي تصدت لكل المظاهرات بعدها.
في ١٩٨٠ صدر قانون مهم جدا أعتقد إن تفاصيله لها علاقة وثيقة بفيديو شادي. القانون دا هو قانون ١٢٧ لسنة ١٩٨٠ الخاص بالخدمة العسكري والوطنية. فقرة ب من مادة ٢ من القانون دا نصت علي الآتي: تشمل الخدمة العسكرية “الشرطة والمصالح والهيئات الحكومية ذات النظام العسكري التي تحدد بقرار من رئيس الجمهورية.”
يعني القانون دا (وغالبا قوانين تانية قبله) بيعطي للدولة حق إجبار مواطنيها الذكور إنهم يأدوا الخدمة العسكرية بتاعتهم في الشرطة مش في الجيش. بمعنى آخر، المجند من دول بدل ما يؤدي ضريبة الدم اللي بيعطيها للبلد في الدفاع عن البلد ضد العدو الخارجي، بيلاقي نفسه مجند في جهاز أنشئ خصيصا لقمع إخوانه في الوطن، مش دفاعا عن البلد بس دفاعا عن النظام.
دا أول هام. تاني هام هو اللي بتضيفه بقية الفقرة ب المشار إليها فوق، فالفقرة دي بتقول إن الشباب اللي الشرطة من حقها تاخدهم كمجندين مش لازم يكونوا حاصلين على شهادات عليا.
تالت هام هو اللي بتقوله المادة ٣. المادة دي هي اللي بتميز بين المواطنين: أصحاب الشهادات العليا بيروحوا الجيش وبيتجندوا لمدة سنة واحدة، إنما اللي معاهمش شهادة عليا بيتجندوا في الشرطة لمدة تلات سنين.
دي هي الأسباب القانونينة والهيكلية اللي بتخلي عسكري الأمن المركزي اللي بنشوفه في المدن غلبان الغلب دا كله. دول شباب الدولة فشلت في تعليمهم، وفشلت في الحفاظ على صحتهم، وفشلت في إيجاد فرص عمل ليهم. وبدل ما تحسن ظروفهم بتاخد من عمرهم تلات سنين علشان يخدموا في قوات الدولة أنشأتها للدفاع عن نفسها مش الدفاع عن البلد. والشاب من دول بيلاقي نفسه مطحون لمدة تلات سنين في معسكرات بيتدرب فيها على قتال … مين؟ مش العدو الخارجي، إنما إخوانه في الوطن. يعني الدولة اللي متسببة في الغلب دا كله بتسخدم العسكري الغلبان دا علشان يحميها ويزيد من غلبه.
اللي مصعب الموضوع إن العسكري دا، متدرب زي الجندي بتاع جيش محمد علي اللي قتل أبوه دفاعا عن الباشا وحاشيته. هو عسكري غلبان صحيح، لكنه اتهرس في آلة قمع وبطش ظالمة. الآلة دي بنشوفها في المضاهرات بتتصدى لينا وبتعاملنا كأعداء للوطن في حين إن احنا طول الوقت بنؤكد للعساكر اللي في الآلة دي، لما تجيلنا فرصة، إن عداءنا للآلة كآلة مش لأفرادها، مع العلم طبعا إن الآلة دي بتشتغل كآلة عن طريق أفرادها دول.
هي دي المعضلة بتاعت الأمن المركزي اللي شادي أشار إليها بنكتته وفيلمه. المشكلة مش في أخلاق شادي وتصرفاته. المشكلة إن القوات دي قتلت أصحاب شادي وزمايله، وأصابته قبل كده في وشه، وجهاز الشرطة اللي بتنتمي ليه ما سابش حرمة من حرمات المواطنين إلا وانتهكها: حرمة الحياة الخاصة، حرمة السلامة الجسدية، وحرمة الحياة نفسها.
وفي المقابل، إيه اللي عمله شادي اعتراضا على أعمال الشرطة، وفضحا للخلل الهيكلي الكامن في تلابيب قوات الأمن المركزي؟ استهدف ضابط من ضباط الشرطة؟ ضرب نار على فرد من أفراد القوات دي؟ حدف عليهم مولوتوف؟ عرّى واحد منهم وداس على جسمه العاري بالبيادة؟ ضرب خرطوش على عنيهم؟ كل اللي عمله شادي إنه عمل فيهم مقلب ما اتعورش فيه حد ولا دفع حد تمنه من دمه.
المسؤول عن غلب عسكري الأمن المركزي هو النظام مش شادي. واللي مبهدل عسكري الأمن المركزي ومضيع صحته وتعليمه ومستقبله وواقف له في لقمة عيشة هو النظام مش شادي. واللي متضايق من انحطاط أخلاق الشباب يلوم الدولة مش شادي.
……………………….
– الدكتور خالد فهمي، أستاذ ورئيس قسم التاريخ بالجامعة الأميركية بالقاهرة