كانوا يخاطبون المصري بعد يوليو/ تموز 1952 هكذا” ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار” وأظن أنه بعد ثلاث سنوات من الجريمة الكاملة في 30 يونيو/ حزيران 2013 من الجائز أن نقول لكل من شارك، وهو بكامل وعيه: اخفض رأسك فقد مضى عهد الحرية والكرامة.
أعيد التأكيد هنا على أنه يمكن بكثير من التسامح، تفهّم أن قطاعاً هائلاً من المصريين تعرّض لعملية خداع استراتيجي في ٣٠ يونيو/ حزيران من العام الماضي، فسقط في فخ ثورة مضادة دهست بسنابكها وأحذيتها الثقيلة ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.
لكن لا يمكن على الإطلاق ابتلاع أكذوبة أن الطبقة العليا من النخبة السياسية في مصر كانت ضحية للخداع ذاته، ذلك أن هذه الطبقة كانت واعية ومدركة تماماً أنها حاشدة ومحتشدة ومحشودة لإسقاط ثورة يناير وليس لإسقاط نظام حكم الدكتور محمد مرسي. كل المقدمات كانت واضحة لا لبس فيها ولا تشويش، كان الأبيض واضحاً والأسود أوضح، بحيث كان الذين زأروا كأسود جائعة طلباً لرأس نظام الحكم المنتخب لأول مرة راضين تماماً بدور الأرانب، وربما الفئران، في ماكينة انقلاب الثورة المضادة، طمعاً في قليل من العشب، أو اختباء من جنون الماكينة المنطلقة بأقصى عنفوانها.
وبالتالي لا يصح هنا التماس أعذار لمَن كانوا يعلمون، ويعون بالضبط طبيعة ما هو آتٍ، إذ كان معظمهم من أولئك الذين لا ينفكون يملأون الدنيا طنيناً بـ”حواديت” الثورة المضادة، حسب الكتالوج الروماني، وحكايات انقلاب العسكر، كما حدث في سيناريو جمهورية “تشيلي” مطلع سبعينات القرن الماضي قبل أن يحسم الجيش أمره بالانقلاب على الحكم المنتخب، كان رموز المعارضة” جبهة الإنقاذ” قد حسموا اختيارهم بالاصطفاف مع العسكر في مواجهة الرئيس، الأمر الذي كان بمثابة التفويض بالانقلاب، مع الالتزام التام بكل ما يريده قائده
في السادس والعشرين من يونيو/ حزيران 2013 نشرت صحف مصرية من بينها “الشروق” تصريحات عسكرية تقول إن الجيش قرر أن يقوم بتنفيذ”شبه انقلاب” وعلى الصفحة الأولى من الصحيفة ذاتها” الجيش استعد لمرحلة ما بعد مرسي” ونقلت على لسان من وصفته بأنه” مصدر سياسي كبير” توقعه” نزول أعداد كثيرة يوم الأحد المقبل فى ظل ما يتردد عن تجهيز عشرة آلاف خيمة ودورات مياه متنقلة ومواد غذائية.
اسمح لي أن أقول لك إن كل هذه الرموز السياسية المعسكرة كانت تعلم أنها في الطريق لقص شريط افتتاح المحرقة، وقد وجهت في يوم 22 يونيو / حزيران نزاء ” إلى تجار الدم قبل الذهاب إلى الجحيم” وفبه إن البلاد لا تحتاج فى هذه اللحظة إلى حذلقات فكرية عوجاء عن «مصر بعد ٣٠ يونيو» بقدر ما تحتاج إلى شىء من النزاهة السياسية والشجاعة الإنسانية لتدارك مصر قبل جحيم ٣٠ يونيو. وإن نخبًا سياسية تترك نفسها للريح مثل خرقة بالية يتقاذفها التيار هنا وهناك هى نخب غير مؤهلة وغير جديرة بالكلام عن سيناريوهات ما بعد.. فالذين يشاركون فى إحراق الحاضر وتبديده لن يكونوا صالحين لترسيم حدود المستقبل ووضع تصورات لما هو آت.
وبالطبع كان الرد الجاهز دوما هو الاتهام بالتأخون والخيانة للثورة وللجماهير، تلك الجماهير التي مصوا وعيها، وسلطوا عليها جنرالات الدولة العميقة، مثل ذلك “الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان” الذي وضعوه على منصة مركز إعداد القادة، التابع للجيش، ليتبادل المكان مع علاء الأسواني، داعيا المصريين للخروج في ثورة مضادة، تطهر البلاد من آثار “مؤامرة 25 يناير”.
كان اللاعب الرئيسى فى محرقة ٣٠ يونيو قد بات معروفا لكل ذى بصر وبصيرة، وهو من يحشر المصريين الآن فى خلاط الشائعات والتسريبات العملاق ويرجهم رجا معلوماتيا احترافيا، ليقول لهم فى نهاية المطاف إنهم لا خيار لهم سوى الجحيم أو التبرؤ من ثورة يناير.
وفي صباح اليوم التالي كان واضحا تماما أن “أنبياء الثورة المزيفين” قد دعوا الحشود إلى “الخطيئة الكبرى” وكان المشهد وقتها على هذا النحو، شكلا: هناك حشد شعبوى هائل فى مصر كلها خرج يطلب رأس الرئيس المنتخب، وهناك اجترار لشعارات وهتافات ثورة يناير على ألسنة جديدة والأماكن هى الأماكن، التحرير وتجلياته فى المحافظات.
ومضمونا: هذه روح أخرى وكيمياء مختلفة للغضب، يسود فيها منطق الانتقام على ميتافيزيقا الحلم، وينبنى الحشد على قواعد ومرتكزات لا تشبه تلك التى ارتفعت فوقها عمارة ثورة يناير، ومن ثم لا يمكن التسليم بأن الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ هو الثانى عشر من فبراير ٢٠١١، أو أن يونيوهو استكمال أو امتداد لثورة يناير.
وأتبعت” إن من لا يريد أن يرى أن النزال العنيف الآن هو بين دولة مبارك ودولة ٢٥ يناير حر فيما يراه ويعتنقه، غير أن العقل يأبى أن يعتبر ثورة اختارت الخامس والعشرين موعدا لها، لتكون ثورة ضد قمع الشرطة بالأساس، شبيهة بأخرى تتصدرها مسيرات بوليسية بالزى الرسمى.
إن يناير كان شهر ميلاد الثورة، بينما يراد ليونيو أن يكون تاريخ وفاتها ومواراتها الثرى لتحقق مقولة الجنرال «ثورة على الثورة”،
وكالعادة جاء الرد: هذه إهانة للشعب المصري، وأن العبد الفقير إلى الله باع نفسه للإخوان، وخان الثورة، على الرغم من أن صباح الثالث من يوليو/ تموز كان قد قطع كل الشكوك، فقلت مرة أخرى من لا يريد أن يرى أن اللعب أصبح على المكشوف وأن الصراع على السلطة بين الدولتين صار واضحا كما لم يحدث من قبل فهو حر فيما يرى، غير أن القراءة الموضوعية لبيان القوات المسلحة تقول بجلاء إن الجيش صار مصدر السلطات فى مصر، يرفع من يشاء ويسقط من يشاء، مكرسا سيادة منطق القوة المادية على ما عداها، لتتوارى قيم الديمقراطية المستقرة والمبادئ الدستورية
والغايات الثورية، ولتعلو قوة السلاح على قوة العقل والعدل وندخل زمن «الديمقراطية بالأمر المباشر».
مشهد أخير:
بعد ثلاث سنوات من”الجريمة” يقف مجموعة من الشباب والشابات، بشجاعة، في سلسلة، يصفع كل واحد فيها الواقف بجانبه، ندما على الوقوع في هذه” الخطيئة الثورية” وهذا جيد وإنساني ومحترم، فمتى تقف الرموز الكبيرة، التي استدرجت هؤلاء إلى الجحيم، أمام المرايا، وتتصفح وجوهها،
وتمتلك القدرة على الاعتراف والاعتذار عما فعلوه بثورتنا اليتيمة؟!