فجعنا جميعا بذلك الفاصل الانقلابي القصير الذي قامت به بعض العناصر المتمردة في الجيش التركي؛ وقضينا ساعات من التوتر ونحن نلهث وراء (عاجل) في مواقع التواصل وعلى شبكات الأخبار وفي القنوات التليفزيونية، فما عادت القلوب تحتمل انتكاسة كتلك التي منينا بها في مصر، صدحت الأصوات بالدعاء لهذه البلاد التى آوت من لفظتهم بلادهم إما لانقلاب حدث فيها أو لمجازر تُرتكب كل يوم تحت سمع ونظر ومشاركة دول العالم.
تركيا بلد وقف مع حق الشعب وديمقراطية اتخذها مسارا وشرعية اغتصبت، هو بلد رفع أربع أصابع تضامنا وحزنا وألما على مصر فامتلك قلوب كثير من أهلها الذين تعلقت عيونهم بالشاشات رعبا وهمست قلوبهم بالدعاء لرب البرية أن يحفظها أرضا وشعبا وقائدا.
بعد أن هدأت الأمور قليلا ، واطمأن الناس على سيطرة النظام التركي على الأمور ، عادت المقارنات لتظهر من جديد كما هو الحال بعد كل موقف يطل فيه ظل تشابه بين رد الفعل المصري على الانقلاب ورد الفعل التركي على مؤامرات أو اعتصامات أو انقلاب كما حدث مؤخرًا، فتجد تجاهلا شديدًا لأحداث وظروف هامة تقضي بأن نزن الأمور بميزان يناسب سير الأحداث، كما تجد مبالغات في الإشادة إما بحق أشخاص أو جماعات أو شعوب !
بداية فيما يخص المبالغة في تضخيم وأد الانقلاب التركي فى مهده؛ أود أن أشير إلى أن ما حدث في تركيا ليس وليد اليوم، فتركيا لم تكن يوما خارج مخطط الشرق الأوسط الجديد، فهي وإن لم تكن دولة عربية، فإنها أقوى دولة إسلامية سنية وإن لم تعترف بذلك في دستورها، لكنها تعلم وكذلك يعلم الغرب.
قفزت تركيا قفزات اقتصادية واسعة أدخلتها مجموعة الكبار من أوسع الأبواب، ارتفع مستوى دخل الفرد فيها إلى 11 ألف دولار سنويا، صنعت أول دبابة، أول مصفحة، أول ناقلة جوية، أول طائرة بدون طيار، أول قمر صناعي عسكري؛ توترت العلاقة التركية الأمريكية لشعور أمريكا بتغير هوية الحكم التركي، زاد التوتر مؤخرا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر، بعد رفض تركيا مساعدتها فى غزو العراق وأفغانستان ، ثم بعد الأزمة التي حدثت بين تركيا وإسرائيل فى 2010 وحاليا مشاركتها المحدودة والمحسوبة فيما أطلق عليه الحرب ضد الإرهاب، ثم تنديدها بالانقلاب في مصر الذي يغض العالم الطرف عنه، وبالتأكيد قرار تركيا شراء نظام دفاع جوى من الصين .
نخلص من ذلك كله أن تركيا تقع في مرمى الانقلابات، وأنها مستهدفة بشكل قوي، وأن دحر انقلاب واحد لا يعنى انتصارا مؤزرا، بل يعني تسجيل نقطة على حساب العدو وأن طريقها مازال مزروعا بالألغام .
أما فيما يخص وصف أردوجان بالزعامة المطلقة والقيادة والحنكة والشجاعة وبأنه خليفة للمسلمين؛ فلا شك أن الرجل يستحق كل تلك الألقاب منا وخاصة أن وجود أمثاله بين حكام العرب والمسلمين أصبح أمر بالغ الندرة، كما أن شعورنا الدائم بالانكسار وهزيمة النفوس، يجعل أي أمر يقوم به ولو كان هدية يمنحها لطفل في عيد هو أمر مثير للاعجاب من قبلنا؛ ولكن، المبالغة في المدح أخذت في عيون مؤيدي الشرعية في مصر منحى آخر، فبعكس احتفائهم بأردوجان، انتقدوا مرسي، وأغفلوا مواقف هي غاية في القوة اتخذها الرجل، ربما لم يستقبلوها بنفس حماسة استقبال مواقف أردوجان ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، موقفه من الكيان الصهيوني، وخطبته في إيران، وخطبته في الأمم المتحدة، وموقفه من سوريا، وموقفه من أفريقيا وسد النهضة، وموقفه من الحديث عن تيران وصنافير، وموقفه من الأمة العربية، وبالرغم من كل ذلك وبالرغم من تواتر الشهادات على أن الرجل كان يعلم ويدرك ويفهم إلا أنه لازال في أعين الكثيرين ذاك الطيب المخدوع في عسكر بلاده، ومن صم أذنيه عن نصح الجميع وتسبب فى نكبتنا الكبرى – وحده – !
لاشعوريا نصب الكثيرين من خلال تعليقات قصيرة يملؤها الألم مقارنة بين رد فعل أردوجان على الانقلاب ورد فعل مرسي، في إشارة إلى أن مرسي لو كان دعا الناس إلى النزول لما حدث ما حدث، في تغافل عن ان كل منهما تصرف بحسب المعطيات المتاحة له، فأردوجان لديه نصف جيشه، مؤيديه وحزبه، معارضة حقيقة تفهم أنها حتى لو أرادت إسقاطه فيجب أن يكون ذلك عن طريق الديمقراطية والانتخابات وليس باستدعاء عسكري يهد المعبد على رءوس الجميع كما فعلت معارضة مصر، لديه مؤسسات تأتمر بأمره، لديه إعلام موضوعي محايد زاد ثقافة الشعب فاتخذ ردود أفعال سليمة وقت أن جد الجد، لديه قضاء نزيه يحكم وفق قانون دون ثقوب أو رقع، فهو عندما يدعو شعبه الذي ذاق الاستقرار على يديه وفق كل ما سبق، فهو يعلم أنه يضيف سلاحا فتاكا ليضع بصمته النهائية فيجهز على الانقلاب.
أما في حالة مرسي، فلن أقول لكم أنه لم يملك منذ اليوم الأول صلاحيات وإن كان حارب بكل وسيلة لينتزعها، ولن أحكي عن الإعلام الذي أكل شعبيته حتى بين مؤيديه، ولن أشير إلى أن مؤسسات الدولة باعترافها كانت لا تنفذ أوامره، ولن أتحدث عن القضاء الشامخ الذي ظل يفك عرى الثورة عروة عروة حتى انحلت عقدتها، ولن أتكلم عن جيش وفلول وقفوا له بالمرصاد في كل خطوة ويعلم الله وحده ماذا كان يجري بينهم في الغرف المغلقة، ترى أكان يتم تهديده بشكل واضح فيما بينهم أم لا؟ ولن أعيد وأزيد في موقف معارضة أقل ما توصف به الخيانة على حد وصف الأتراك لمن هم فى مثل مكان معارضتنا العصماء لديهم، ولكن أقول انظروا إلى تفتت جبهة مؤيديه ما بين رافض له لأنه من جماعة زنادقة يحكمون بالديمقراطية، وبين آخرين يرون الفاشية الدينية تكاد تقفز من عينيه، وبين مدعين حيادية وموضوعية زائفة ما زادت الناس إلا شكا فيه وفي قدرته على القيادة .
قارن الناس أيضا بين الشعب التركي والشعب المصري ، ووصفوا الأول بالتحضر والرقي والوعي، ووصموا الثانى بالعبودية والتخلف والاستمتاع بلعق البيادة والرقص في الطرقات. في الحقيقة لا أستطيع لومهم فهم في إعجابهم بآداء الشعب التركي لهم كل الحق، فقد أظهر الشعب التركي شجاعة وبسالة ووعي أسعد قلوبنا وأزال عنها كثير من الألم ، ولكن يجب أن نتذكر وسط بريق الإعجاب في العيون أن هذا الشعب تم الانقلاب عليه أربع مرات ذاق فيهم مرارات لم تزل في حلوقهم إلى اليوم، هو شعب عظيم غرر به أيضا ذات يوم، وانسلخ عن دينه وقيمه، وبفضل من الله ثم بجهد جهيد من نخبه المختلفة المشارب، تعلم ووعى الدرس، وحين الاختبار حصل على أعلى العلامات، ولذا احتفلنا به.
أما فيما يخص وصف شعب مصر، فاسمحوا لي في نظرة ربما لا يوافقنى عليها الكثيرون؛ ففي غمرة غضبنا وحزننا وصدمتنا في أهلينا، من هللوا للدم وفوضوا السفاح وأعطوه شيكا على بياض ليفعل ما بدا له في مواطنين أمثالهم، هم الجار والقريب والصديق، تجاوزنا نقاط عدة، لا تبرر ما فعلوه بالقطع ولكنها تيسر علينا فهم ما جرى؛
أولا ، شعب مصر ليس غبيا، فعندما كانت هناك ثورة اجتمع عليها الناس خرجوا ورفضوا الظلم والذل، كانوا ثوارا برغم أنهم ربما يجهلون ماهية الثورة وكيفيتها ومآلاتها، فمن دعوا لتلك الثورة لم يعلموهم أو يرشدوهم لمعنى هذا الفعل وآلياته ومراحله وتاريخه فى الدول المجاورة، لم يمحوا أميتهم السياسية قبل أن يسحبوهم لفعل هم يجهلون أبجدياته، وثق الناس فى دعاة الثورة وخاصة هؤلاء الذين ظهروا على الشاشات فى ثوب ليبرالى أنيق، فقد اعتاد الناس أن ينبهروا بأفعالهم ولباسهم وكلامهم البراق، كما اعتادوا أن يستخدموا ذوي اللحى في الحصول على خدمات أو فتاوي، ماحدث يا رفاق، أن أصحاب الكرافاتات ذوي اللسان المعسول الذين يشابهون إلى حد كبير نجوم السينما المصرية المعاصرة رسموا لهم الآمال والأحلام وكلموهم عن أشياء لم يسمعوا بها من قبل، ديمقراطية ! حرية ! حقوق انسان! مساواة!
فهم الناس هذه الأمور، وعلى هذا الأساس انخرطوا في فعل ديمقراطي شهد له القاصي قبل الداني بالتحضر والإيجابية، ولما خرجت النتيجة منافية لما أراده أصحاب الكرافتات، بدلوا قولهم قولا غير الذى قيل، فصارت الديمقراطية لا تعني صناديق الانتخاب ! وصارت الحرية أن يجبروا فريقا ثوريا آخر على ما يريدون وإلا فالتشويه والموت مصيرهم، وهكذا وفي لحظة تطابق قول أصحاب الكرافتات بقول أصحاب البيادة وأصحاب رءوس الأموال والأسوأ أن القول تطابق بفتاوى أصحاب العمم، حينها خُدع بعض الناس – وهؤلاء قلة – بتلك التفسيرات المغلوطة لشعارات يناير، ووجد الكثيرون بها مخرجا من حالة عدم الفهم والفوضى و الجزع، تلك التبريرات الرنانة التى قدمها الليبراليون للعسكر على طبق من ذهب، فانتقل قطاع من الشعب ليس بهيّن ببساطة من يد خائن ليد قاتل، هذا القطاع لم يفهم معنى الثورة من قبل، فغالبية المصريين إلى اليوم مازالوا يظنون أن ما حدث فى 23 يوليو ثورة حقيقية وليست انقلابا، وبناءا على ذلك كان من السهل اقناعهم بأن ثورة يناير ما هي إلا مؤامرة، فكيف لهم أن يفهموا أن ما حدث اليوم انقلابا على ثورة !
بل إن من نخبتنا الثائرة المثقفة كثيرون مازالوا يشيدون ببطولات عبد الناصر رغم النكسة، وانتصارات أكتوبر رغم كامب ديفيد !
في ظل المفاهيم المغلوطة والتاريخ المفبرك وأرضية الجهل التي حوصر بها المصريون كان من الطبيعى أن يستجيبوا لداعي القتل مغمضي العينين – برغبتهم -.
من الخطأ هنا وصمهم بالجهل دون أن نلوم على الثوار أنفسهم أنهم لم يعدوا الشعب من قبل لاستقبال فعلهم الثوري، بل إنهم لم يدرسوا حجم الفساد وفوق ذلك لم يبحثوا بشكل موسع حجم توغل العسكر فى البلاد، ربما كان أقربهم فهما لأحوال الناس كانوا هم الإخوان ومن هنا كان تريثهم فى الانضمام لقافلة الثورة.
إن حقائق كثيرة فوجئت بها النخبة الثورية بعد الثورة، فكيف بشعب قوامه 90 مليونا مخترق من كل الجبهات يرزح تحت أقدام الفقر والجهل والمرض منذ عقود، حتى أنه فقد معهم كل شعور بالحياة والكرامة كما فقد بوصلة هويته فما عاد يعلم أهو إسلامى أم حداثي. تصرفت النخبة الداعية للثورة – والتى كانت عند كل مفصل ثورى تطالب بجدول زمنى – بأسلوب عشوائي فكانت النتيجة فوضى عقول ونفوس مريضة.
كلامي هنا لا يعفي فصيل من هذا الشعب من مسئوليته أمام الله عمن قُتلوا وعُذبوا واعتُقلوا، عن أطفال صاروا شبابا في الأسر، عن فتيات اغتصبن، عن نساء ترملن، عن رجال أُعدموا، فهو لم يكتف بالصمت عما جرى، بل جاهر بالتأييد والتشجيع بكراهية وابتذال لم نلمسهما طوال تاريخ مصر القديم والحديث والمعاصر، وكأن أبناء هذا الفصيل ليسوا منا ولسنا منهم !
حديثي هنا – فقط – لنفهم، كيف وصل شعب كان فاكهة العرب إلى أضحوكة، بل إحدى مساخر العالم التي جعلت بلد عظيم كمصر مُثلة بين الشعوب، شعب كانت أمامه فرصة مثالية للخروج من نفق مظلم، ففضل أن يستمر فى الخوض فى برك موحلة على أن يرى النور ليغسل روحه ويضئ وجهه وتشرق الشمس فى سماء عقله.
إن المقارنة المستمرة المحبطة التى تنتج عن معطيات ناقصة، طالما تسفر عن نتائج مغلوطة تولد الضيق والحسرة والانكسار، دعونا نخرج نحن من بؤرة الجهل بالتاريخ حتى يستطيع كل منا أن يكون شمعة فى محيطه، قد تضئ لشخص واحد فيضئ هو لغيره وهكذا حتى تستنير العقول وينحسر الجهل، من قهرنا هو جهلنا بحقيقتنا، بديننا، بهويتنا، بتاريخنا، عندما تعرف من أنت، عندما تكون صادقا واضحا موضوعيا فى تحليل أخطائك، ستعرف كيف تنتصر.