مصر لم تعد في حالة اقتصادية سيئة، فأداء الانقلاب دفعها سريعاً لحافة هاوية. ولم يعد مجدياً اللجوء للمعايير الاقتصادية التي تُستعمل لقياس أداء الاقتصاديات حتى المريضة منها، فهي في النهاية اقتصاديات تحمل عوامل النهوض مرة أخرى.
فلم يعد الاقتصاد المصري يمتلك خلال ثلاثة سنوات مقومات الاقتصاد الوطني الذي يُمكن أن تصلحه إجراءات أو تنهض به قروض أو يتحمل مشروعات كبيرة أو صغيرة.
البعض ينظر إلينا حانقاً كيف نقول ذلك على اقتصاد بلدنا! ونحن نقول له أنه ليس اقتصاداً وليس اقتصاد بلدنا.
فهو ليس اقتصاداً؛ لأنه لم يعد يتضمن العناصر الأساسية للبناء الاقتصادي الجمعي، والذي يجمع بين العناصر البشرية المؤهلة أو غير المؤهلة والوحدات الإنتاجية أياً كان نوعها ومدى جودتها وبغض النظر عن أي درجة من التناغم فيما بينها، وعلاقات الإنتاج المتعارف عليها بين قوى السوق أو التي تُديرها سياسة موجهة من سُلطة واعية. بل نزعم أنه لا يوجد لدينا سوق اقتصادي وإنما سوق سوداء كبيرة تتاجر فيها السلطة بكل مقومات الدولة.
والأمر لم يأت فلتة، فعبقرية الأداء الاقتصادي لمبارك هو ما أدى إلى تلك النجومية للانقلاب في عالم الاقتصاد. كان مبارك قادراً على أن يجعل نصف الاقتصاد المصري خارج المنظومة الرسمية للدولة، وقادراً على تدوير النصف الآخر في شبكة فساد يتحكم فيها فتُدر الملايين على نظامه وتمتص من الشعب رحيق الحياة ببطء..
أما الانقلاب فإنه جعل مجمل اقتصاد الدولة خارج الإطار الرسمي، فالسياسة المالية تتحكم فيها السوق السوداء بالكامل، وعملية تدوير ما تبقى من أصول الدولة فيما يُعرف بالخصخصة تجري على قدم وساق خارج أي إطار رقابي ولو شكلي، ولم تكن الإطاحة بالمستشار جنينة إلا إعداماً للجهاز المحاسبي الوحيد الذي لم تكن له سلطة فعلية سوى أن يقوم بدور السيد كوهين في فيلم حسن ومرقص وكوهين، بأن يجلس على باب المحل لحساب الإيرادات والمصروفات، دون أن يتمكن من اكتشاف التلاعب الذي يجري داخل المحل أو في التسويات المالية خارجه.
وأصبحت المؤسسة العسكرية تهيمن على كل حركة اقتصادية بنسبة النجاح الانتخابي لزعيم الانقلاب 98%، بما في ذلك رصف الطرق وحفر القنوات وصناعة الأغذية وعمليات المقاولات. وهي لا تخضع لأي رقابة ولا تعتبر أنشطتها جزءاً من ميزانية الدولة وبالتالي بما يجعلها جزءاً من السوق السوداء.
حتى السوق الإعلامي أصبح مجالاً تنافسياً لأذرع اقتصادية عند تتبعها نتبين أنها تنتمي إما لجهاز المخابرات العامة أو للمخابرات العسكرية في صورة تنافسية بديعة (!!) تعبر عن اقتصاد السوق السوداء الذي لا يمكن لك لا أن تقيِّمه ولا أن تتفاءل له مهما رغبت في التفاؤل.
أما عن القروض وحركة المال الصادر والداخل فلا علاقة لها بأي نشاط اقتصادي وطني كما يأمل البعض وينتظر الفرج من قرض الـ12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، فمصيرها حتى لو تحولت لضعف ذلك، لن تكون أفضل من مصير 41 مليار دولار ضختها الدول الداعمة في جسد الانقلاب فلم يشعر الشعب المصري سوى بوخز الإبر، لكنه لم يجنِ أي إفاقة أو تحسن في صحة اقتصاده. فالشعب هنا مجرد شريان لنقل حركة الأموال إلى القلب الذي لا يُعيد ضخه مرة أخرى للجسد وإنما يلتهمه كاملاً ويطلب مزيداً. فيتضخم القلب بينما يزوي الجسد وينكمش.
والقلب هنا هو المافيا الحاكمة بشبكة الفساد التي صاغها مبارك بالتعاون مع أكبر المكاتب الدولية لبناء وإعادة هيكلة عصابات المافيا على مستوى العالم، ثم استعادها الانقلاب وأعاد ترميمها بحيث أصبحت أكثر غباءً وأشد جشعاً.
لقد ماتت المنظومة الاقتصادية المصرية، ولم يعد يجوز عليها إلا الرحمة، وعلينا أن نفكر كيف لنا أن نعيد بناءها وجمع عناصرها على أسس وطنية جديدة بعد سقوط المافيا الحالية بزعيمها الأب الروحي.
أما الوضع السياسي فهو ميّت منذ أن قررت أول سلطة ثورية انقلابية في تاريخ مصر الحديث أنه لا ضرورة لدستور ولا لأحزاب ولا لرأي آخر، وأنه يكفيها فقط صرخات الزعيم لتغطي على صرخات المعتقلين والمعذبين في السجون والجوعي في الحواري والكفور.
مصر لم تعرف السياسة منذ سبعة عقود كاملة، فقد جرى تأميمها بالكامل، ولم تكن محاولات بعض القوى الوطنية والتي تُوِّجَتْ بثورة يناير النبيلة إلا اجتهاداً لاستعادة الحياة في جسدها، لكن القتلة مصرون على أن يبقى جسد الشعب المصري خالياً من أي دماء اقتصادية ترد فيه الحياة أو أي دفقات سياسية تعيد إليه الوعي.
السياسة في مصر بين مطرقة المافيا الحاكمة والمافيا التي تقاتلها، وكلاهما يتغذيان على بعضهما. فالتنظيمات المتطرفة والتكفيرية ظلت على مدار الأربعة عقود السابقة في مصر صناعة أمنية بامتياز.
فباستثناء الجماعة الإسلامية التي تحمل رؤى وطنية ونشأت في كنف الجامعات من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة، ولم يدفعها إلى العنف إلا ممارسات أمنية حثيثة، والتي بدأت باغتيال متحدثها الرسمي نهاية الثمانينات، لكنها تراجعت سريعاً عنه إلى فكرها ورؤاها الخالية من العنف الذي يخدم أمن المافيا ولا يضر سوى الشعب؛ وكذلك جماعة الإخوان المسلمين، التي تنامت عبر الجسد المصري بتغذية مصرية خالصة فكريا أو حركيا. فكلاهما -اتفقت معهما أو اختلفت- كيان مصري لم تنتجه معامل تفريخ مافيا السلطة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الجماعات الجهادية التكفيرية التي فاجأت الشعب المصري بعنفها ثم فاجأته بموتها واندثارها لم تكن -كما أثبتت التحقيقات في القضايا الكبرى خلال التسعينات مثل الناجين من النار- إلا صناعة أمنية بامتياز صنعتها مافيا السلطة واستعملتها وقت الحاجة إليها، ثم تخلصت منها.
وأخيراً قدمت المخابرات الأميركية فخر صناعتها الجهادية بصناعة داعش، فسارعت المخابرات المصرية لتقدم ولاية سيناء فرعًا لها لتعلن ولاءها للصناعة الأميركية إعمالًا للتنسيق الأمني والمخابراتي الذي أصبح من مسلمات الأداء الأمني للمافيا الحاكمة لدينا. فالانقلاب في مصر من قبل الإعلان عن نفسه وهو يجهز فرعه الجهادي؛ لأنه سيحتاجه لتبرير مجازره وقمعه وعنفه واستدرار الدعم العالمي لسنوات؛ حتى يتمكن من تثبيت أركانه، ثم تنتهي الحاجة لولاية سيناء، كما بدا أن الحاجة لداعش في الشام والعراق وليبيا أوشكت على الانتهاء.
نحن بين أخوين يتعاركان ليعطي كل منهما سبب الحياة ومبررات البطش بخصومه، ويجتمعان على قتل السياسة وخنق الحقوق والحريات وتكفير كل مُنتخب وأي مُنتخب حتى لو كان الرئيس مرسي؛ لما لا؟! وهو النموذج الذي عبر عن إرادة شعب اختار للمرة الأولى في تاريخه الحديث حاكمه، فكفرته المافيا بفرعيها السلطوي ومدعي الجهاد.
إنها معادلة لطحن الشعب وتحويله من ملح الأرض إلى بعض الدقيق تذروه الرياح؛ فإما أن يقبل بمافيا السلطة بجهلها وفسادها وقمعها أو أن يرتمي بحضن مافيا العنف بتكفيرها وانسداد أفقها، وفي الحالين لا يبقى لدينا شعب واحد ولا دولة لها مقومات ولا مشروع يُمكن للجميع أن يلتفَّ حوله..
الخروج من ذلك المأزق التاريخي الذي نعيش فيه، هو بأن يستجمع المدركون للمشهد قواهم ويستنهضون الشعب بجهد توعوي منظم يتوحد فيه الخطاب السياسي والاجتماعي والديني ليصب في إعادة بناء الوطن في العقول والمشاعر ليُمكن إعادة بناؤه في الواقع.
فما نراه في صفوف المدركين لحالة الفساد والتردي ولخطورة الوضع القائم أنهم توحدوا في الإدراك، لكنهم اختلفوا في العلاج، بالإضافة لاستسلام فريق مهم منهم لمؤثرات خطاب المافيا بشقيها السلطوي والجهادي. فالخطاب الذي يتضمن مصطلحات القتل والإبادة وقطع الرؤوس والتخوين والإقصاء، هي مصطلحات يجري تصديرها من جهازي الشؤون المعنوية لشقي المافيا، بحيث تُصبح المعارضة للظلم ظالمة في خطابها ومرفوضة من الجمهور المُستهدف.
كما أن السعي إلى وضع خطط للسير ضمن المسار الشكلي الذي تصنعه مافيا السلطة وتسميه مسارًا سياسيًا هو أيضًا وقوع في فخها لاستنزاف كل جهد في الإصلاح في محاولات لن تُجدي لتحسين الجسد الخرب من داخله.
مشروع وطني واعٍ في خطابه ودقيق في خططه ويملك القدرة على تمثيل كل مصري، تحمله مجموعة مصرية وطنية هو وحده القادر على أن يخوض النضال لاستعادة الدولة المصرية واستنهاض الشعب المصري وقيادته في معركة إنقاذ من المافيا بشقيها.