أحمد زويل الذي نشأ في أسرة عادية، وضاقت به بلاده أن يبلغ فيها شيئا، وجد أمامه بلاد الغرب مفتوحة ترحب به، لم يتردد في استثمار الفرصة ودخول الباب المفتوح (وهنا ربما نتجادل في صحة ذلك أو خطئه)، لكن الذي لا ينبغي أن يكون فيه جدل هو أن أحمد زويل تحول برغبته ليكون أداة في يد ذات السلطة التي حرمت بلاده من العلم، كان أداة في يدها لتستمر مسيرة التخلف في بلاده، مسيرة مصبوغة بالدماء والمظالم.. مات أحمد زويل مؤيدا لهذه السلطة. مات زويل.. وبقيت مأساة السلطة والعلم في هذه البلاد المنكوبة.
أولاً: السلطة والعلم وغروب دولة المماليك:
منذ نزل الاحتلال الفرنسي إلى بلادنا وهذه البلاد مُبتلاة بسلطة تعادي الشعب، تعاديه وتقهره وتجلده وتسحقه، ليس فقط لمجرد كونها سلطة فاسدة، وإنما لحقيقة كونها مستندة إلى الغرب في تثبيت سلطانها، فهي تعمل دائما على تحقيق مصالحه وضمانها له.
فعند غروب دولة المماليك لم تكن مصر دولة متخلفة من كل الوجوه كما سُوِّق لنا، بل الناظر في تاريخ الجبرتي يجده يترجم لعدد كبير من العلماء في مجالات الهندسة والفلك والكيمياء والميكانيكا وغيره، بل ومن أولئك العلماء من كان يأتيه طلاب العلم من بلاد أوروبا فيتعلمون منه، إلا أن المأساة، وكما رصدها الجبرتي نفسه، كانت في أن هذا العلم لم يجد سلطة تستثمره في صناعة الآلات، بينما أولئك الطلاب الأوروبيين بعدما تعلموا “وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الاثقال واستنباط المياه وغير ذلك”.
وقد حاول الفرنسيون استعمال العلم في الدجل لنشر الخوف والفزع وتعظيم قدرهم في صدور المصريين، وأعلنوا أنهم سيطيرون طائرة من الأزبكية إلى فرنسا في يوم بعينه، فاجتمع الناس ليشهدوا هذا، فإذا بهم يطيرون بالونا أرادوا له أن يطير حتى يختفي عن الأنظار فيحسب الناس أنه ذهب إلى فرنسا، لكن التجربة فشلت وسقط البالون أمام الناس.. لكن المهم هنا هو أن الجبرتي وصف نظرية عمل البالون وارتفاعه بطريق البخار، وهو وصف لا يتفق ومفهوم النخبة.
على كل حال، فإن أمر التخلف العلمي هو من المباحث التي ظهرت فيها العديد من الدراسات الحديثة التي تثبت كذب القول بأن أهل مصر كانوا متخلفين علميا في ذلك الزمن، بل ذهب “بيتر جران” في دراسته الشهيرة “الجذور الإسلامية للرأسمالية” إلى القول بأن مقارنة بين ما أنتجه المصريون في منتصف القرن الثامن عشر وما أنتجوه في منتصف القرن التاسع عشر (أي عند نهاية عصر محمد علي) تدل على أن المرحلة الثانية هي مرحلة انحطاط.
ثانياً: السلطة والعلم في عهد الحملة الفرنسية
كانت مشكلة بلادنا مشكلة سلطة متخلفة لم تنهض لتأخذ العلم فتحيله إلى سلاح تدفع به العدو وتحمي به الحمى، فلما جاء الاحتلال تأسست علاقة مختلفة بين السلطة والناس، علاقة قائمة على خوف السلطة من الأمة واحتقارها لها.. تخاف منهم إذا تعلموا أن يثوروا ويُقاوموا، ثم تصوغ مخاوفها هذه في شعور احتقاري يبرر لها أن تبطش بهؤلاء الناس.
ولما جاءت الحملة الفرنسية اندفع الناس يقاومونها بكل ما استطاعوا، واندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى قال عنهم ضابط فرنسي: “لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل”، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة “لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه، ومن رأى ليس كمن سمع، ذلك أنهم صنعوا المدافع”، بل يشهد كليبر (قائد الحملة الفرنسية آنذاك) بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورة.
وهذا وإن كان دليلا على البسالة فهو دليل كذلك على مستوى علمي استثمره المصريون في مقاومة الاحتلال، ويشهد بهذا الجنرال مينو القائد الأخير للحملة الفرنسية.. فقد اقترح “مينو” إنشاء مصنع للجوخ في القاهرة لسد الحاجة الماسة إلى الأجواخ التي انقطع ورودها من أوروبا بسبب الحصار البحري، لكن أعضاء اللجنة الإدارية (لجنة فرنسية تُشرف على أعمال الحكومة الإدارية ويدخل في خصائصها الشئون المالية والزراعية والاقتصادية) عارضوا قبول العمال المصريين في هذا المصنع بحجة الضرر الذي يلحق الصناعة الفرنسية إذا عرف المصريون أسرارها، وكتبت اللجنة رسالة في هذا الصدد قالت فيها: “إن مقدرة المصريين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية”.
وصرح المسيو كونتي (مدير المصنع الميكانيكي الذي أنشأه الفرنسيون) أنه لا يقبل البتة تعليم أحد من الأهالي أساليب الصناعة، وتم الاتفاق بين “مينو” واللجنة الإدارية على إنشاء مصنع للأجواخ بإدارة “مسيو كونتي” على أن لا يُقبل فيه عامل مصري”.
ثالثاً: السلطة والعلم في عهد محمد علي:
احتفظ محمد علي بنفس نظرة الاحتقار للمصريين، فقد عُرِضت عليه ترجمة لقانون أوربي يُقترح تطبيقه في مصر، إلا أنه أمر المترجم ألا ينسخ القانون الأوروبي بلا تبصر، لأن القانون يناسب “الأوربيين، [وهم] شعب متنور متحضر. أما شعبنا فمثل بهائم البراري، فلن يكون هذا القانون بالبداهة مناسبا لهم”، وفي مناسبة أخرى قال “إن سكان ولايتنا مصر، من ثلاثة أنواع. أولها أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وثانيها أناس وإن كان من الممكن أن يكونوا مخلصين وطيبين فإنهم يفتقرون لأي قدرة على التحفظ. أما أفراد النوع الثالث فلا يختلفون عن الحيوانات”.
ورفض محمد علي أن ينتشر التعليم بين الناس لئلا يحدث له مثلما حدث لملوك أوروبا من الثورات، وقد كشف عن هذا في خطاب ردَّ فيه على ابنه إبراهيم باشا الذي طالب بفتح مدارس جديدة قائلا إنه لا ينوي مطلقا أن ينشر التعليم بين العامة في مصر، ورأى أن على إبراهيم أن يقنع بتعليم عدد محدود من الناس يستطيعون أن يتولوا مناصب رئيسية في الإدارة وينبذ فكرة التعليم العام. وحتى بعد أن أنشأ هذه المدارس كان كثيرا ما يعبر عن استيائه لأنها ممتلئة في معظمها بطلاب مصريين يتحدثون العربية. وكتب إلى إبراهيم –حين كان في الأناضول في ذروة الحرب مع العثمانيين- يأمره بأن يحاول أن يجتذب بعض الأتراك من تلك المناطق ويرسلهم إلى المدارس في القاهرة.
إذن فلماذا ينسب لمحمد علي كل هذا الفضل في إنشاء المدارس وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا؟
هذا ما يجيب عنه الشيخ محمد عبده في مقاله الذي يعد أجمع وأخصر ما وُصِف به عهد محمد علي، يقول: “قالوا: إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد. نعم عني بالطب لأجل الجيش والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم، وبالهندسة حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير، ليستغل إقطاعه الكبير. هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية؟ هل تفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ لم يكن شيء من ذلك…
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً أوأمواتًا. وُجَدَ كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طُبِعَت وغُلِّقَتْ عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها تُرجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم ينجحوا؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون.
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى (الأفناء: الناس المجهولون) كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش”