عندما يقترب شهر أغسطس/آب من منتصفه تبدأ التجهيزات والاستعدادات على مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات ما تسمى بـ”الشرعية” للبدء في فعاليات البكائيات واللطميات التي اعتادوا على ممارستها منذ عام 2014 حينما حلت الذكرى الأولى لمذبحة ميدانَي رابعة العدوية والنهضة.
تلك الفعاليات غالباً ما تستدعي صور الضحايا وأسماءهم وسيرهم الذاتية الحافلة بأعمال الخير، وكيف كان هؤلاء المساكين سلميين لا يملكون سلاحاً ولا عتاداً؛ ليدفعوا به عن أنفسهم غدر النظام الانقلابي الذي لم يألُ جهداً في تصفيتهم وإبادتهم بعدما نجح تماماً في شيطنتهم وتحويلهم إلى فزاعة للداخل والخارج.
غالباً ما تتضمن تلك الفعاليات أيضاً عرض بعض التغريدات ومقاطع الفيديو التي يعبر فيها أبطالها من المشاهير عن سخطهم من هذا الاعتصام، ومطالبتهم فيه قوات الأمن بالتحرك لفضّه والتخلص منه وممن فيه بحسم وقوة، بغض النظر عن نتائج وعواقب هذا التحرك الرهيب تجاه مجموعة من المسالمين الذي اصطحبوا معهم نساءهم وأطفالهم في حشد ضخم استمر 45 يوماً ثم انتهى بفاجعة لم يكن يتوقعها أو يضعها في الحسبان أكثر المتشائمين من منظّميه.
يظن البعض أن عدم مشاركته في تلك البكائيات -على الرغم من عدم قناعته بجدواها- هو ببساطة خيانة لدماء الشهداء الذي قضوا مدافعين بصدورهم العارية وأياديهم الفارغة عن قضايا الأمة، لكني قررت ألا أشاركهم البكاء هذا العام، وأعتقد أني بذلك لن أكون خائناً أو زنديقاً يستمتع بحياته بينما لم يجف دم إخوانه بعد.
لو كان البكاء سيعيدهم إلى الحياة أو سيقتص لدمائهم ممن سفكها أو سيحقق ما ماتوا لأجل تحقيقه أو على الأقل سيشفي صدور ذويهم وأهلهم، لكنت ذرفت عليهم الدم بدلاً من الدمع، لكن للأسف الفائدة الوحيدة التي أجدها من تلك البكائيات ربما تتلخص في زيادة عدد المتابعين لرموز المدافعين عن “الشرعية” على “تويتر”، ربما ستجد القنوات المناهضة للانقلاب مادة شيقة لعرضها على جمهورها الباكي في تلك الأيام، أو ربما سيجدها الحقوقيون فرصة سانحة لاستدرار العطف من بعض المنظمات الحقوقية الدولية التي (تعطيك من طرف اللسان حلاوة… وتروغ منك كما يروغ الثعلب).
ذكرى المذبحة بالتأكيد تمثل مناسبة جيدة لدى عشرات المتحدثين الرسميين باسم عشرات المؤسسات المناهضة للانقلاب لإصدار بيانات نارية -لا تعدو حناجرهم- عن مدى وحشية النظام في تعامله مع اعتصام سلمي، جل هذه البيانات الهدف الرئيسي منها هو إثبات أن المؤسسة الصادر عنها البيان لا تزال على قيد الحياة بعدما كانت تملأ الدنيا ضجيجاً عن أن قائد الانقلاب أصبح محاصراً دولياً، وأنه سيوضع قريباً على قوائم المطلوبين للمثول أمام المحاكم الدولية، أو أن الانقلاب يترنح في أيامه الأخيرة.
ما ينجح فيه هؤلاء حقاً هو تهييج مشاعر الشوق والثكلان عند من لا ينتظرون هذا اليوم لتذكر ذويهم، إنهم يعيشون معهم كل ساعة، يحكون لهم عن نجاح أبنائهم في الدراسة، وكيف أضحى ابنك يا عزيزي يافعاً بشكل كافٍ بعد ثلاث سنوات من ذهابك ليتفوق على أقرانه في تمرين السباحة، العروس التي تذكر أباها بموعد حفل زفافها على حسابه بالفيسبوك الذي لم يعد يفتحه، الزوج الذي يذهب إلى المطعم المفضل لدى زوجته الراحلة مصطحباً معه ذكرياته فقط، الزوجة التي تشتكي لصورة زوجها المعلقة على الحائط من ابنها الذي تعاني جداً في تربيته، الأم التي تبحث بين الفتيات لابنها عن عروس كلما ذهبت إلى عرس جديد بالرغم من أن ابنها لم يعد قادراً على الزواج، هؤلاء فقط من يستحقون أن أبكي معهم، أما من يتاجرون بآلامهم وأحزانهم فلا يستحقون إلا اللعنات.
ربما سأبكي معكم فعلاً عندما تكون حملاتكم وفعالياتكم تلك في إطار خطة محكمة ورؤية واضحة للقصاص ممن قتل هؤلاء وقتل غيرهم من قبل في التحرير وبورسعيد وماسبيرو وغيرهم، أما العزف على أوتار المعذبين والبكاء على أطلال الثورة التي شارك في هدمها الكثير ممن يذرفون الدمع الآن عليها وعلى أهلها، هذا -وإن أردت الحقيقة العارية- هو الخيانة بعينها.
لن أبكي معكم هذا العام؛ لأن ما يستحق البكاء فعلاً هو حالكم وحالنا الذي أوصلتمونا إليه، سأدخر هذا الدمع ليوم أسكبه فيه فرحاً بتوحدكم أو سعيداً بزوالكم، فالهدم أحياناً يكون الوسيلة الوحيدة لبداية البناء كما قال الراحل (نيلسون مانديلا): “في بعض الأحيان تحتاج إلى جرافة، وفي أحيان أخرى، تحتاج إلى فرشاة لإزالة الغبار”.