وصلت حالة الهذيان القومي العام في مصر إلى مرحلةٍ شديدة الخطورة، تنذر بكوارث على الطريق، إذ كلما يغوص عبد الفتاح السيسي في فشله، يقفز منحنى الفاشية إلى أعلى مستوياته.
يمرّ النظام كله بحالةٍ من عدم الاتزان العقلي، ناهيك عن اضطرابه نفسيا، ومن ثم إقدامه على إجراءاتٍ بالغة العبثية والعشوائية، تشبه مستصغر الشرر المؤدّي إلى الحرائق الكبرى، ويتجلى فلتان أعصاب السلطة في مزيدٍ من السياسات التي تفتك بالسواد الأعظم من الشعب، من دون احتمالات اندلاع الغضب مجدّداً، وكأنهم على يقينٍ من أن الجماهير لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وأن النخب السياسية ارتضت المساحة الصغيرة التي تركتها لها السلطة، كي تلعب فيها، “تيران” و”صنافير” مثلا.
قبل عام مضى، كتبت إن “عبد الفتاح السيسي يشبه مطرباً بائساً يردّد أغنية وحيدة، بالإكراه، ومع سبق الإصرار والترصد، على جمهور أكثر بؤساً، لا يملك حق الاعتراض، أو المطالبة بالتجديد في الكلمات واللحن والأداء، فالمطرب الذي يعتمد على عضلاته أكثر مما يستخدم صوته يرى في نفسه فناناً، وفي الجمهور قطيعاً من الرعاع، ينبغي أن يصفقوا لكل هذا السخام المتدفق من حنجرة أتى عليها الصدأ”.
الآن، تجاوزنا مرحلة احتقار الجمهور إلى الرغبة في استبدال الجمهور وإبادته، إذ مع اتساع مساحة الغضب والاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والخارجية بدرجة أقل، تتحول كتل من الجماهير، بنظر النظام، إلى مجموعةٍ من الأعداء والأوغاد والمتآمرين على موهبته العالية وقدراته الغنائية الرهيبة، في ظل ذلك الوهم المعشّش في رأسه، أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود، ولن ينجح فيه اللاحقون.
تنتقل حالة الهذيان من رأس السلطة إلى أطرافها، البرلمان مثلاً، وأذرعها، الإعلام نموذجاً، فتسمع هراءً لا يمكن أن يصدر إلا من داخل عنابر الحالات الخطرة في مستشفيات الأمراض العقلية، فتندلع حمى الاستطلاعات المزيفة، والهاشتاغات، بحثاً عن شعبية كاذبة، مع اقتراب نهاية فترة أولى لتسلط عسكري، فاقد الشرعية السياسية والأخلاقية.
انفجار لغم الاستطلاعات في الذين راحوا يزرعونه في حقول “السوشيال ميديا” أفقد الجميع صوابه، فاشتعلت الهستيريا في الشاشات وأوراق الصحف مجدّدا، لتبلغ حد الملهاة الباكية، على وطنٍ كان رائداً، فصار راقداً فوق بيض الخرافة والدجل، مفرّخاً كل يوم أسراباً من مروجي الكذب، المحرّضين على القتل.
تُستعاد مجدّداً دراما “مصر لن تركع”، وكأننا لم نبرح بدايات شتاء العام 2012 التي شهدت ذروة بطش السلطة العسكرية التي بدت، في ذلك الوقت، فاقدةً عقلها، فارتكبت عديد المجازر، تحت غطاء المؤامرة الكونية على مصر، لتركيعها وتقسيمها واحتلالها، إلى آخر هذه الخرافات التي تتجدّد بالعبارات ذاتها، على الألسنة ذاتها، هذه الأيام في “كونيشرتو” بقيادة مصطفى بكري.
من ألوان الهذيان، ما ردّده النائب مصطفى الجندي، أحد المشرفين على تمويل وتسليح بلطجية حرق الإخوان في يونيو/ حزيران 2013، في رده على ما كشفته صحيفة الغارديان البريطانية عن علاقته بحملة المرشح العنصري الأميركي، دونالد ترامب، بدلا من الرد على ما أثير عن تأجير شقته الوثيرة في الولايات المتحدة لحملة ترامب، يلهو بكلامٍ تافهٍ عن أن الصحيفة بريطانية، فكيف تتناول موضوعا أميركيا، فضلا عن أنها بريطانية مملوكة لقطر، وقطر عدو “30 يونيو”، كما ردد النائب في مداخلاته.
في هذيانه، يقول النائب إن موضوع شقته المؤجرة لحملة ترامب أثارته قطر للتشويش على نتائج زيارة الرجل الذي “يرأس 54 برلماناً أفريقياً، كما قال في مداخلةٍ مع إحدى القنوات، ويرتفع الرقم إلى 55 مع قناة أخرى.
يتحدّث النائب عن زيارة رئيس ما أسماه “برلمان عموم أفريقيا” التي لم يهتم بمتابعتها أحد، حتى صحافة السيسي، ليصل، في النهاية، إلى أن “الغارديان” تتآمر عليه، وعلى الجيش العظيم والسيسي الأعظم، لأنه سكرتيره في رئاسة البرلمان الأفريقي العمومي.
يبلغ الهذيان مراحل أخطر مع المذيع الذي أضحك العالم باستطلاع شعبية السيسي على “تويتر”، حين يواعد مشاهديه على أنه سيسجل هدفاً تاريخياً في مرمى قطر التي تتآمر عليه، فتشدّد مخابراتها على الفنادق بعدم بث برنامجه، رعباً من تأثيره الذري، وشعبيته الكاسحة.
في الإجمال، أنت أمام حالة خلل عقلي، تتبدّى في صورة هلاوس وضلالات وملامح هذيان مستمر، تنحدر من قمة السلطة إلى سفح عساكر دركها الإعلامي والدبلوماسي، الأمر الذي يثير مخاوف دوائر غربية من أن هذا التآكل في عقل النظام الحاكم في مصر، قد يندفع بها إلى مآلات أسوأ بكثير مما يتصورون.