إنّ المتابع لمسيرة ثورات الربيع العربي، سيدرك ببساطة شديدة أنّ جميع هذه الثورات قد أصيبت بانتكاسات شديدة، والثورة التونسية هي الوحيدة التي نجت من الاستئصال الدموي.
فالثورةُ الليبية تحوّلت إلى حرب أهلية، والثورة اليمنية إلى حرب إقليمية بالوكالة، والثورة السورية إلى حرب دولية بالوكالة، والثورة المصرية انتقلت إلى حكم عسكري انقلابي دكتاتوري…
ولعلّ من البداهة أن نقول: إنّ العالم المسمّى بـ “الدول الديمقراطية” المتمثّل في أمريكا والاتحاد الأوربي كانوا بكلّ بساطة من المناهضين لثورات الربيع العربي وبطرق مختلفة…
لكنّ الأمر الذي يعنينا ليس موقف “الدول الديمقراطية”؛ بل هو موقف الأنظمة العربية من هذه الثورات الشعبية، ومن هنا تأتي الأسئلة المشروعة الآتية:
ما هو الموقف الحقيقي للأنظمة الحاكمة العربية من هذه الثورات !؟
كيف تعاملت مع ثورات الربيع العربي !؟
ما هو الدافع وراء موقف الأنظمة العربية !؟
من حيث النتيجة، الأنظمة العربية هي عدو حقيقي لجميع ثورات الربيع العربي، والمتابع لأحداث الثورات العربية يُدرك ذلك ببساطة شديدة، وطريقة تعامل هذه الأنظمة مع ثورات الربيع العربي هي دليل صارخ على عدائيتها الجارحة لهذه الثورات.
فبعد أن نجحت الثورة التونسية، قامت السعودية باستقبال زين العابدين بن علي على أراضيها كضيف كريم، ولكي يقضوا على هذه الثورة لم تقم الأنظمةُ العربية بالتعاون مع الدولة التونسية الناشئة، فلم نشهد المساعدات الاقتصادية والدبلوماسية لهذه الدولة، فلا استثمارات عربية، ولا قروض، ولا مساعدات؛ بل كان هناك حرب اقتصادية على تونس، وإلى هذه اللحظة ما تزال تونس في طور عداء الأنظمة العربية لها، ولسان حال الأنظمة العربية يقول: ليت العسكر يحكمون تونس من جديد…!!
وفي مصر نجحت الثورة، وأُجريت انتخابات شهد العالم كلّه بنزاهتها، وأفرزت حكومة ديمقراطية…لكنْ أَبَت الأنظمةُ العربية وسادتُها (الدول الديمقراطية) إلا أن تقضي على هذه الثورة، فدعمت الأنظمةُ العربية وعلى رأسها دول الخليج الانقلاب العسكري في مصر، وجاء السّيسي إلى الحكم، وتدهورت أحوال مصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى لا يسقط نظام السيسي قامت دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات بضخ عشرات المليارات من الدولارات في الاقتصاد المصري، ما بين ودائع وقروض ومساعدات واستثمارات…كلّ ذلك حفاظاً على الدكتاتورية الانقلابية الجديدة…
وفي ليبيا سقط القذافي، وتشكّلت حكومة وطنية، فلم ترق هذه الحكومة للأنظمة العربية، فحاربوا هذه الحكومة، وأشعلوها حرباً أهلية، فقامت السعودية والإمارات ومصر والجزائر بدعم بعض الفصائل، ثمّ قاموا باستجلاب حفتر ليكون النار التي تحرق الثورة الليبية…وما زالت هذه الأنظمة تُزكي نار الحرب الأهلية في ليبيا…
وفي اليمن السعيد، كان علي عبد الله صالح الطفل المدلّل لدول الخليج، لكنّ ثورة الشعب اليمني كادت أن تقضيَ على نظامه، وتقيم نظاماً ديمقراطياً، لكنّ دول الخليج تدخّلت لتنقذ صالح، واستضافته السعودية وحافظت على هيبته وثرواته، وحصل في اليمن نتيجة لذلك نصف ثورة، ثمّ انقلب صالح مع الحوثيين على دول الخليج، ودخلت اليمن في الحرب الأهلية، ثم الحرب الإقليمية…
وفي سوريا قامت الثورة، ثمّ تحولت إلى ثورة مسلحة، فكانت الأنظمة كعادتها ضد الثورة، فكلّ الدول العربية كانت تعاديها، باستثناء السعودية وقطر، وكان موقف السعودية ليس سببه حبّ نجاح الثورة؛ بل الخوف من التَّغَوُّل الإيراني في سوريا واليمن، وبالتالي وصول الثورة الخمينية إلى السعودية…ورغم كل ذلك كان دعم السعودية للثورة السورية دون المستوى المطلوب، فالذي يرى النظام الإيراني كيف يدعم نظام الأسد، سيدرك بكل سهولة أنّ الموقف السعودي كان هزيلاً جداً، فهو إعلامي أكثر من أن يكون واقعياً فاعلاً كالدور الإيراني الفاعل، والذي يعيش على الأرض السورية يدرك أنّ الدور السعودي الذي يرتبط بفصائل معينة دون سواها كان من أحد معيقات الوحدة بين الفصائل، وكان باستطاعة السعودية أن تقدّم للثورة السورية أكثر من ذلك بكثير جداً لكنها لم تفعل…
لكن الآن لابدّ أن نجيب عن السؤال الجوهري: لماذا وقفت وستقف الأنظمة العربية ضدّ الثورات العربية !؟
لا يختلف عاقلان بأن الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج هي أنظمة ديكتاتورية استبدادية من النّوع الفريد في العالم كلّه، فهي إما أنظمة ملكية استبدادية، أو سلاطين مستبدين، أو جمهوريين ديكتاتوريين، وتجمعهم جميعاً ـ الملك والأمير والسلطان وأمير المؤمنين والرئيس والزعيم ـ القبضة الحديدية التي تحارب الحريّة؛ لأنّ أدنى مستلزمات الحريّة هي تداول السلطة…
إذن فالحريّة تعني زوال العروش العربية المستبدّة، فنجاح هذه الثورات يعني أن تنتقل رياح التغيير الثورية إلى دولهم، فمن هنا كان لازماً على الأنظمة العربية أن تحارب الثورات العربية؛ بل لابدّ من إشعال الحرب الأهلية في بلدان الثورات؛ حتى تكون دول الثورات عبرةً لكلّ شعب عربي يريد أن ينتفض على حاكمه المستبد، فلسان حال الحاكم العربي يقول لشعبه: إذا أردت ثورة فانظر إلى سوريا، مليون بين قتيل وجريح، ثمانية ملايين نازح، أربعة ملايين مهاجر، خراب في المساكن والبنية التحتية، شلل الزراعة، شلل الصناعة، الأمراض، الفقر المدقع، ذلُّ المساعدات…وكذلك ليبيا وكذلك اليمن…
فثورات الربيع العربية خرّبتها الأنظمة العربية ـ عن سابق قصد وتصميم ـ من أجل أن تكون مدرسة عظيمة لتركيع الشعوب العربية التي تحكمها بالحديد والنار…
والأنظمة العربية قلعة عاتية في وجه الحرية بمفهومها الشامل، ويخطئ من يظن أنها فقط ضدّ الحريّة؛ لأنها تأتي بالإسلاميين إلى الحكم؛ بل هي ضد الحريّة ولو كان على رأسها أكبر العلمانيين…
وهذه الأنظمة العربية ـ بحربها الشاملة على الحرية ـ تقول وتفعل؛ بل وتفعل أكثر مما حصل في دول الربيع العربي…
فهذه الأنظمة تعتقد جازمة، أنّ حرية الشعب هي زوال الحاكم المستبد؛ لذلك اختارت بكلّ وضوح: “البقاء للحاكم، ولو ماتت كلّ الشعوب”…!!!