في الحادي عشر من فبراير 2011 كنتُ من الذين استبشروا خيرا، وانصرفوا من الميدان، وأحسنوا الظن في القوات المسلحة المصرية، وظنوا أن مصر قد بدأت عهدا جديدا، وأن ثورة يناير انتصرت، وأن عهود الحكم العسكري قد انتهت إلى الأبد.
ومرت الأيام … واكتشفت (مثل ملايين المصريين) أننا أمام مؤسسة لا تعرف معنى الوطنية، وأن فساد مبارك ليس إلا جزء صغيرا من فساد المؤسسة العسكرية، وأننا أمام قادة أصبح ولاؤهم الكامل لأعداء الوطن، وأننا لا بد أن نسقط النظام وأن نعيد الجيش إلى ثكناته.
كنتُ أتساءل في تلك الأوقات: كيف يمكن أن نصطدم بالجيش وهو يملك كل هذا الرصيد عند غالبية المصريين؟
* * *
صحيح أن غالبية إنجازات المؤسسة العسكرية ليست أكثر من أكاذيب وتلفيقات، ولكن الواقع يقول إن الغالبية العظمى من شعب مصر يصدق تلك الترهات.
مسلسل “رأفت الهجان” يصدقه المصريون، برغم أن السيد “رأفت الهجان” نفسه ليس أكثر من عميل مزدوج، وقد خدم إسرائيل أكثر مما خدم مصر.
ولا أريد أن أتحدث عن السادة ضباط المخابرات في المسلسل نفسه، وكيف تم تجنيد بعضهم (أتحدث عن الشخصيات الحقيقة لا أبطال المسلسل)، وكيف تم تجنيد بعض أبنائهم، حتى حصل بعض أبنائهم على الجنسية الإسرائيلية (بعد الزواج من إسرائيليات)، وأصبح أبناؤهم أسرائيليين لا مصريين.
كل هذه أمور فرعية، وما يهمنا أن المصريين يصدقون تلك البطولات المصطنعة عن جيشهم، فكيف يمكن أن نقنع المصريين بأن هذا الجيش لا يملك تلك الإنجازات، ولا يحمل سوى هم الجباية (عرق الجيش)؟ ولا يعمل إلا من أجل إرضاء سادتهم في واشنطن وتل أبيب؟
كيف يمكن أن نقنع الناس بإن تلك المؤسسة لا يحق لها أن تحكم حتى لو حققت تلك الانتصارات وأكثر منها بالفعل؟ فما بالك وهي مجرد أكاذيب!
كنتُ دائما أتخيل أن انسحاب الجيش سيكون بفضل فعل سياسي من سياسيين أذكياء يتمكنون من تحجيم العسكر، ولم أكن أتخيل أن يقوم قادة القوات المسلحة بتقزيم المؤسسة وتشويهها بهذا الشكل المهين الذي يحدث الآن.
جيش يحرم الأطفال من الحليب (المُدَعَّم).. لكي يحتكر بيعه بعد ذلك للمواطنين البسطاء بضعف ثمنه تقريبا!
لو حكمتنا إسرائيل لن تجرؤ على فعل ذلك !
لو عاد التتار إلى عصرنا لما ارتكبوا هذه الجرائم التي تمزج بين الوحشية والدناءة والحماقة !
ما يفعله السادة قادة القوات المسلحة ليس مجرد جشع، بل هو جشع ممزوج باحتقار للأمة المصرية.
والوضع الحالي في مصر أن الأمة باتت تبادل الجيش احتقارا باحتقار، والأمة على شفا انهيار يأكل الأخضر واليابس، ومن يظن أن الدبابات والمدرعات تستطيع إيقاف ملايين الغاضبين الزاحفين إلى ثكنات الجيش من أجل الحصول على حليب أطفالهم … فهو واهم واهم … هذا زحف لا يمكن إيقافه.
لم أكن أتخيل أن تصل الحقارة باسم القوات المسلحة إلى هذا الدرك الأسفل من الجشع.
ولكن … ما حدث حدث … فماذا نحن فاعلون؟
سيكون الانفجار القادم مدويا.. انظر لما حدث مع الشاب النابه الشهيد بإذن الله أحمد مدحت، ذلك الطالب المتفوق، أول دفعته في السنة الخامسة من كلية الطب، ألقي القبض عليه، ثم قيل لأهله بعد يومين تعالوا واستلموا جثة ابنكم من المشرحة!
الجثة تصرخ من شدة التعذيب، جثة مختومة بختم النسر، جثة لن تجد لها مثيلا إلا في مصر !
وليتهم اكتفوا بذلك … لقد أصدرت وزارة الداخلية بيانا حقيرا مثل وزيرها، ومثل سلوكها، وضحت فيه “حقيقة مقتل الشاب”، لقد ألقى بنفسه من شرفة أحد بيوت الدعارة بعد أن داهمتها الشرطة !
أنتم الدعارة … أنتم الفحش … أنتم الخَبَث … ولا قيام لهذا البلد إلا بالقضاء عليكم بالقانون.
الحقيقة … أن كثيرا من الدول تمر بظروف مماثلة، ولا تنفجر، أو يتأخر انفجار الشعب سنوات وسنوات، ولكن ما حدث في مصر منذ عام 2011 إلى اليوم يجعلنا نقول بكل ثقة إن جيل الشباب لن يقبل أن يستمر هذا الوضع أبدا.
لو انفجرت غضبة المصريين الآن ستكون كارثة، لأن مؤسسات القوة في الدولة المصرية ستكون هدف الناس الأول، وعلى رأس هذه المؤسسات القوات المسلحة بالطبع.
وفي ظل حالة الانقسام المجتمعي، والاستقطاب السياسي، والاحتراب الاجتماعي الذي تعيشه مصر … من حقنا أن نخاف من أيام مرعبة لا يعلم ما وراءها إلا الله.
ولكن … لو تمكن معارضو الانقلاب في مصر وفي الخارج من تجميع صفوفهم، وخلقوا تكتلا يضم غالبية المصريين، ويعبر عن تطلعاتهم، ويحقق أهداف الثورة المجيدة … فسوف يكون ذلك كابحا لشر مستطير، وضمانة لإطفاء أي حريق في بدايته قبل أن يتضاعف ولا يمكن السيطرة عليه.
واجب كل من يقاوم هذا النظام أن يعمل من أجل جمع الكلمة، وما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا، ولكننا ما زلنا نصر على العودة إلى الماضي، وكأن الإنسان بإمكانه أن يصحح ما جرى من مصائب بأثر رجعي.
* * *
لا يسعني سوى أن أشكر السادة قادة القوات المسلحة المصرية على ما قدموه من خدمات جليلة لتيار التغيير في مصر، أقول لهم (ووالله إني حزين لذلك كل الحزن) “لقد عَرَّيْتُم الجيش، وسَهَّلْتُم مهمتنا في إعادتكم إلى ثكناتكم”!
بقي أن يتحد معارضو الانقلاب لكي لا يستغل هؤلاء الحثالة تفرقنا ويشعلوا البلد على طريقة “نيرون” في لحظات سقوطهم الأخيرة.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …