السقوط هو تهاوٍ من ارتفاع شاهق لقاع سحيق.
ومصر في حالة سقوط متسارع منذ 3 يوليو 2013 حتى الآن.
ربما لا يشعر البعض بعملية السقوط لأنه لا ينظر إلى ما هو ثابت أو صاعد من حوله، فهو يشعر أنه في فراغ. ومن يعش في فراغ يعتقد أنه ثابت في مكانه، ولا يُدرك أنه يسقط إلا عند ارتطامه الكبير بالقاع، وساعتها لا قيمة لا إدراكه.
المعضلة إن هناك سقوطا لا قاع له، قد يستمر لفترة زمنية دون أن يشعر الساقطون أنهم يسقطون، بل ربما جادل بعضهم بأنهم إنما يصعدون في السماء، ويتجاوزون غيرهم.
الله يريد خيرا بالضحايا عندما يُرسل لهم إشارات لتنبيههم، فيفضح السقوط في لقطات بسيطة وساخرة لكنها لاذعة ومبكية؛ طارقا على الرؤوس لكي تنتبه وصادما العقول لكي تفهم ومعتصرا القلوب لكي تعي.
صور ساخرة يتناولها المصريون نكاتا وسُخرية وهي تعبر عن كوارث تضرب وطننا كل يوم أو كل ساعة.
لا أتحدث هنا عن التنازل عن المياه وبيع الجزر والتفريط في مصادرنا للطاقة في البحر المتوسط أو إلقاء أموال الشعب في الرمال أو في كروش الفساد، فتلك مصائب تجاوزناها إلى مصائب أفدح، تصل إلى بيع الدور الإقليمي والدولي والتنازل عن الكرامة والتفريط في الشرف الوطني.
فيعرض شريط اللقطات رأس الاستبداد ذاهبا للقاء ملك الشقيقة السعودية في طائرته التي تحط بأرض القاهرة، في إخلالٍ بكل ما تعارفت عليه الدول من قواعد البرتوكول التي تحفظ الشكل الظاهري لكرامة الأمم والشعوب، فهو لم يذهب تقديرا للملك السعودي وإنما إهداراً لكرامة الأمة المصرية.
وعندما يذهب لإحدى دول النيل فلا ينتظره رأس الدولة ولا حتى أقل منه درجة، فإنه لا يتسامح مع خلل بروتوكولي وإنما يدمر الصورة الذهنية لمصر في عقول وقلوب أشقائنا في إفريقيا.
وعندما يضع على كتفيه جاكت حارس بوتن فإنه يخلع عن مصر رداء الكرامة.
وعندما يقف منكسرا ليحصل على مصافحة من أوباما فينظر له رئيس وزراء الهند شزرا دون اعتناء ولا يُصافحه أوباما إلا مضطرا في صفاقة بروتوكولية مذهلة لا يُمكن ارتكابها إلا مع ممثلي شركات الدعارة أو مندوبي عصابات الكوكايين.
عندما تتواتر تلك الصور لا يبقى لأحد عذر ليتغابي فيجادل أو لينافق فيبرر، سوى تلك الأبواق التي لا تملك من أمرها شيئا، وإنما تؤمر فتردد ما يُتلى عليها، فألسنتهم مقيدة وعقولهم سجينة ونفوسهم ميتة، فلا يُرجى منهم خير.
بالطبع تلك صور هزلية لكنها تُخفي ضياعا لشخصية بلد عظيم، ولا تقل كارثية في دلالتها عن بيع الأرض والتفريط في المياه وقتل الشباب واعتقال أشرف أبناء مصر، فهي تعبر عن سقوط للبلد وما يحوي والأرض وما تحمل والشعب وما يعني.
رسائل إلهية تُرسل كل يوم لعيون ملايين من أبناء شعبنا لا ليسخروا منها، بل ليُدرك الجميع الحقيقة، فما لا يُمكن لملايين المصريين تحليله بالأرقام وتقييمه بالدراسة والبحث، يُقدم إليهم في صورة سهلة تشرح المعقد وتيسر الصعب وتفضح الخفي. فيمكنك أن ترسم صورة واضحة لحالة البلد من خلال تلك الرسوم المتحركة والمواقف الساخرة، ثم تُرتبها ترتيبا منطقيا لتصل للنتيجة الواضحة لكل ذي بصيرة، وهي: أن مصر يجري نقلها من خانة البلد الفاشل إلى خانة البلد التافه، بكل ما يعنيه ذلك من انهيار للقيمة وضياع للهيبة وفشل اقتصادي وتيه سياسي وضياع للمستقبل.
نحن نعيش السقوط الذي لا يُمكن للأكاديمي المدقق أن يجهله، ولم يعد للشخص العادي أن يُنكره.
الصور التي تُرسلها لنا كاميرات الميديا لتصف حالنا ولندرك الكارثة التي نعيشها، لا يجب أن يكون مآلها هو صناعة النكات وزيادة جرعة السخرية، فالكوارث لا تتوقف عن التعاظم لمجرد أن ضحاياها يسخرون منها، بل تكبر حتى تجعلهم يصرخون من آلمها ويُعانون من وخز آثارها؛ وربما أمسى كثيرون ينامون على وجع الكارثة ويستيقظون على كوابيسها.
كما إن الكوارث لا تنجلي بالرضا ولا بالتمني ولا بالمكابرة، بل تنجلي عندما يقرر ضحاياها مواجهتها معا وإدراكهم بأن علاجها هو بإزالة سببها أولا، لا بالبحث عن مسكنات وتجنب مواجهة المرض.
فحالة السقوط التي نعيشها لن يوقفها قرض باثني عشر مليار دولار ولا بمائة مليار، فهذه الكارثة منذ 3 يوليو 2013 حرقت في طريقها حتى الآن ما لا يقل عن 100 مليار دولار نقدا عدا ما تبدد من أصول وحقوق. كما لن توقفها معونات، فليست هناك دولة كبيرة أو صغيرة قادرة على حمل بلد بحجم مصر.
كما لن يوقفها تعيين أعظم اقتصادي الأرض حتى لو كان الانجليزي انجوس تايتون الحاصل على نوبل في الاقتصاد 2015، أو حتى بالمار شاخت أعظم اقتصادي ألمانا في العصر الحديث، لأن الفساد أصبح ينخر في الأعمدة بعد أن أكل الحوائط وعرى البلاط.
ولن يوقفه سيطرة المؤسسة العسكرية على مجمل الحياة الاقتصادية، فما تقوم به ليس أكثر من سطو علني على ما تبقى من أنشطة ربحية ومصادر الفوائض المالية التي ستنضب بالضرورة معا تعاظم جشع الفساد أمام تآكل المقدرات الاقتصادية.
هذا السقوط ستوقفه فقط وصفة يعرفها الجميع، بما فيهم من يغتصب الحكم لكن البعض يحاول عدم الحديث عنها لأنه يتوارى من مواجهة الحقيقة. وهي تبدأ بضرورة أن يؤمن شعبنا بأنه قادر على أن يطبق إجراءات الإنقاذ، وأولها ‘سقاط السلطة التي هي سبب الكارثة ومغذيتها، وإعادة مؤسسات الدولة لوظائفها المحددة، خصوصا عودة الجيش لثكناته العسكرية لا لمحلاته التجارية، والإفراج عن كل معتقل، وبناء منظومة عدالة انتقالية تُعالج قضايا الدماء التي لا ينجو أحد من لعنتها إن استمر في التستر على القتلة، والعودة لإرادة الشعب وقبول اختياراته، راقت أو لم ترق، أصابت أو أخطأت، فخطأ الشعوب في الاختيار خير ألف مرة من فقدانها حق الاختيار. وما نكابده ليس سوى نتاج لسلب الشعب حقه في الاختيار والمحاسبة.
إسقاط الاستبداد والفساد هو الأضحية التي يقدمها أي شعب فداءً لوطن كامل بأهله وماضيه وحاضره ومستقبله، أما الالتفاف حول ذلك فلا يعني سوى انتظار لقطات أكثر سخرية تعبير عن سقوط أشد عنفا.
كل عام وأنتم بخير..