ما الذي يجعل عبد الفتاح على هذا القدر من الثقة؟ يمكنك أن تقول البجاحة، وهو يصدر عفواً رئاسياً عن متهم رئيس في مذبحة جماهير الكرة في ملعب مدينة بورسعيد، قبل أن يشدّ الرحال إلى الولايات المتحدة الأميركية؟!
كانت كل التوقعات والتكهنات تشير إلى أن جنرال الانقلاب سوف يستبق رحلته إلى نيويورك بطلاء وجهه بكمياتٍ من مساحيق وأصباغ، مؤقتة، تشي بأنه رئيس لنظام مدني، وليس ممثلاً للدولة العسكرية. وعلى ذلك، ذهبت تقديراتٌ إلى أنه سيفرج عن مجموعةٍ من الأسماء الرنانة من الناشطين السياسيين المحبوسين، ثمناً لتذكرة الذهاب إلى نيويورك، لكن السيسي فاجأ الجميع بالعفو عن قتلةٍ مدانين بأحكام قضائية باتّة، مستمراً في التنكيل بالمعارضين السياسيين، الحقيقيين، داخل سجونه الفسيحة.
أهي الثقة في أن الأمم المتحدة والبيت الأبيض، ومن طاف حولهما، أصبح لا يعنيهم موضوع الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، بقدر ما يهمهم دفء العلاقة مع الاحتلال الصهيوني، والامتثال للرؤية الغربية للحرب على الإرهاب؟ أم هو استصغار حجم المعارضة لنظامٍ حقّق الأرقام القياسية في معدلات الفشل الاقتصادي والسياسي، وبات ضعفه مفضوحاً، حتى أمام مؤيديه وأنصاره؟ أم هي حالة من الاطمئنان إلى أن مستوى التهديدات لا يكفي لإيجاد حالةٍ من الخوف، أول القلق، من ردود أفعال المضارين من سياساته البليدة؟!
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، ولمناسبة ذهاب السيسي إلى نيويورك، كان ثمن تذكرة السفر أغلى كثيراً من هذا العام، إذ كانت قائمة المشمولين بالعفو الرئاسي حافلةً بالأسماء ذائعة الصيت، أو كما كتبت في ذلك الوقت “الأسماء ذات الرنين والبريق في الميديا الغربية، بصريح العبارة من النجوم في الحراك الجماهيري”. وكان مثيراً للانتباه، وقتها، أن البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية كان حريصاً للغاية على وضع تعريف “ناشط سياسي” أمام اسم كل من أفرج عنهم.
السيسي هو السيسي، والرحلة هي الرحلة، وموضوع العفو الرئاسي، لمناسبة العيد هو ذاته، لم يتغيّر، فلماذا كان المتغير الوحيد هذا العام هو انخفاض سعر التذكرة، من الإفراج عن ناشطين بارزين، إلى العفو عن مدير ملعب مجزرة بورسعيد، والذي أمر بإغلاق بوابات الملعب، فسقط 73 شهيداً من جمهور ألتراس النادي الأهلي، وقرّرت المحكمة إدانته وسجنه، بناء على هذه المعطيات؟!
هل انخفض سعر الإنسان المصري إلى الحد الذي بات فيه العفو الرئاسي يذهب إلى الجناة والقتلة، ولا يعرف طريقه إلى المظلومين؟
صحيحٌ أن رحلة السيسي 2015 إلى نيويورك جاءت في سياق زمني متوتر وضاغط على نظام الجنرالات، إذ أتت بعد أيامٍ من تورّط أجهزته الأمنية في جريمةٍ بنكهة الفضيحة الدولية، أسفرت عن قتل عدد كبير من السائحين المكسيكيين، قصفاً بطائرات الأباتشي التي كانت ثمرة حجته الماضية إلى نيويورك. لكن، من غير المنطقي أن نعتبر أن موضوع السياح مثل ضغطاً إضافياً على الجنرال، لكي يقوم بالإفراج عن متظاهرين ومتظاهرات، قبل السفر، ليقول إنه يحترم الحريات وحقوق الإنسان.
ويمكنك أن تضع موضوع جوليو ريجيني مكان قضية السياح المكسيكيين، وهو ما كان يمكن أن يؤدي منطقياً إلى إقدام زعيم الانقلاب على خطوةٍ لا تقل عما قام به قبل رحلة العام الماضي، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس. أبقى الثوار في السجون، وأفرج عن قاتل الثوار، وهو ما يؤشر إلى أن الجنرال يسلك وكأنه يمتلك رخصة استبداد وطغيان معتمدة دولياً، تجعله لا يبالي، هذه المرة، بانتقادات المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
غير أنك لا يمكن أن تستبعد، وأنت تقرأ الموقف، أن هزال المعارضة وهزلها يغري أي ديكتاتور بأن يمعن في طغيانه، واستهانته بمعارضيه، خصوصاً عندما يتحرّكون ثلاث سنوات، من دون أن ينتقلوا خطوة واحدة إلى الأمام، مكتفين بحالة اجترار بائس لمقولات مكرّرة وممجوجة، وثبتت عدم صلاحيتها، كونها تتأسّس على قيم براغماتية، نفعية ووقتية، لا على مبادئ محترمة، لها صفة الديمومة.
وأكرّر هنا أن مناهضة الاستبداد مسألة أخلاقية بالأساس، ينبغي لها أن تبقى بعيدةً عن قوانين السوق وحركة الأسهم في بورصة المواقف السياسية، ومترفعةً عن قواعد السمسرة والانتهازية والبراغماتية، أو كما ذهب مارتن لوثر كينج: تظل الغايات النبيلة بحاجةٍ إلى وسائل نبيلة أيضا.