إن النظام السياسي في منطقتنا يتحلل. رسم لنا البريطانيون والفرنسيون خطوطا في الرمل وقالوا لنا: هذه أوطانكم، فأحبوها وموتوا في سبيلها، وفي أكثر الأحيان، صمم لنا ضباطهم قماشا ملونا، وقالوا لنا هذه أعلامكم فقفوا عند الصباح صفوفا وحيوها. ثم إذا بهذه الخطوط المرسومة على الأرض تمر بين المرء وأخيه وبين الأم وابنها، وبين الزوج وزوجته، فقالوا لنا إنكم إذا مر هذا الخط بينكم أصبحتم أجانب، وأصبحتم تحتاجون إلى تأشيرات وأذون ليزور بعضكم بعضا، وأصبح تعاون أخوين عبر خط الحدود بلا إذن من الحاكم خيانة عظمى، أما تعاون الحاكم مع الغزاة المحتلين القادمين مما وراء البحار معهم الموت المعدني، فعمل وطني.
ثم قالوا لنا إن هذه الطريقة في التنظيم السياسي والاقتصادي والعسكري أفضل وأنجع وأحدث وأكثر عقلانية وعلمية. وزعموا أن هزائم الدولة العثمانية حين خسرت الجزائر في ثلاثينيات القرن الثامن عشر أو حين خسرت مصر وتونس في ثمانينياته، أو حين خسرت المشرق كله بعد الحرب العالمية الأولى، إنما وقعت بسبب كونها نظاما سياسيا قائما على غير العقل. وأن المقاومات الشعبية التي تخللت هذه الهزائم وتلتها وقادها رجال القبائل أو رجال الدين، انهزمت أيضا لأنها تأسست على عصبيات غير عقلانية، هي الدين والقبيلة.
وقالوا إن الدولة القومية القُطرية المركزية الحديثة، المكونة من جيش نظامي وبيروقراطية مدنية، هي تعبير عن مقتضيات العقل، تقوم على المصلحة المادية، وتنظم الطاقات البشرية بموضوعية لغرض تعظيم تلك المنفعة. وعليه فقد أقنعونا أن لا بد من أن نتخلص من دولة دينية تستند في شرعيتها إلى غياب غير قابل للقياس، لتحل محلها دولة لا يحكمها إلا من يمكن قياس شرعيته بالأرقام، أي بالانتخابات، ولذلك فإن دولة صغيرة يحكمها شعبها حكما ديمقراطيا، خير من خلافة طويلة عريضة يحكمها فرد على هواه، ويسمي ذلك إرادة الله. وأقنعونا، أن هذه الدول الصغيرة ستعوض حداثتها وديمقراطيتها و”علميتها” عن صغر أقطارها، وقلة أعداد شعوبها، وضعف مواردها، وتفريق الأخ عن أخيه بحدودها الاعتباطية.
ذلك كان ما قالوه، لكن ما فعلوه، هو أنهم احتلوا هذه الدول الصغيرة التي انشؤوها بعد زوال الدولة العثمانية، وزعموا أنهم باحتلالها إنما يدربون شعوبها ويعلمونهم كيف يديرون الدولة الحديثة. وما كانت فترة الاحتلال تلك إلا فترة يؤسسون خلالها تبعية اقتصادية وانكشافا عسكريا هيكليا في الدول التي خلقوها تلك. لقد بنوا البلدان العربية على أساس أن تتصرف كمستعمرات حتى بعد استقلالها. بل إن ذلك كان شرط استقلالها الاسمي. كان شرط استقلال مصر أن تبقى قناة السويس تحت رحمة البريطانيين، وشرط استقلال العراق والأردن أن يكونا حليفين لبريطانيا العظمى، وشرط استقلال لبنان أن تحكمه الفئة التي ترى في فرنسا أما رؤوما وترى في المحيط العربي والإسلامي تهديدا وجوديا، والشرط الأهم لاستقلال هذه الدول جميعا، هو أن تحافظ على حدودها ولا تسعى لتوحيد ما حولها أو التوحد معه. كان لنا أن يستقل بعضنا عن بعض لا أن نستقل عن غزاتنا، وكان لنا أن نحتفظ بسيادتنا أمام إخوتنا وأن تتكرس عبوديتنا أمام السيد المحتل.
ثم زاد الطين بلة، أنه، في الوقت الذي انشطبت الدولة التي كانت تسمي نفسها “خلافة” أي إنها دولة للمسلمين، يكفي، نظريا، لأي مسلم أن يكون مسلما ليصبح من رعاياها، أنشئت في المشرق “دولة يهودية” أو دولة لليهود، يكفي المرء، نظريا وعمليا، أن يكون يهوديا ليصبح مواطنا فيها. ثم ما انفكت هذه الدولة اليهودية تنتصر على الدول العربية المقسمة تباعا. إن هذا التناقض أورث الدول القطرية العربية هشاشة، ونقصا في شرعيتها منذ اليوم الأول لإنشائها، وقد عالجت هذه الأزمة بخليط من الاستبداد والفساد والاعتماد على السند الأجنبي ما زال قائما إلى اليوم.
إن قيام دولة إسرائيل يناقض الأساس الذي قام عليه الترتيب الإقليمي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى برمته. فإن كان المنطق الذي على أساسه اقتنعت النخب العربية بالقبول بالمشروع الاستعماري، هو أننا بصدد إلغاء الدول الدينية لأنها غيبية وغير عقلانية وغير علمية وعصبوية، ولا تصلح للقرن العشرين، حتى وإن اقتضى ذلك تفكيك نظام سياسي تقليدي مستمر منذ ثلاثة عشر قرنا، فكيف تكون إسرائيل جزءا من هذا النظام الإقليمي، وهي دولة تقوم أساسا على الانتماء الديني.
إن مجرد وجود دولة يهودية يكفي أن يكون المرء يهوديا ليصبح مواطنا فيها، يخلق أزمة شرعية عند كل الدول العربية. ويولد ضغطا عند مجموعات عدة من العرب والمسلمين لاستعادة دولة إسلامية يكفي المرء أن يكون مسلما ليكون مواطنا فيها، وإذا مددنا الخط على آخره جاز ذلك على أصحاب كل الأديان الأخرى. وستقول كل ملة لماذا يجوز هذا لخصومنا ولا يجوز لنا، لماذا يجوز لهم أن ينتموا لراية توحدهم، وأن نبقى نحن أسرى عشرين راية تفرقنا على أساس حدود اعتباطية رسمها غيرنا.
إن الذين صدقوا المشروع الذي أتى به الاستعمار منذ مئة عام أن ينظروا إلى أين أوصلنا، وأن يبحثوا عن بديل، وكل ثورة لا تجد بديلا جذريا لهذا الترتيب، ولا تجد إجابة واضحة وجذرية للقضية الفلسطينية، ولتحدي وجود دولة تفرق بين الناس على أساس الدين هي إسرائيل في المنطقة، لن تعدو أن تكون مجموعة وقفات احتجاجية إصلاحية تريد تحسين مشروع استعماري فاشل منذ نشأته، فتغير قماشا بقماش، ونشيدا بنشيد، ثم تبقى التبعية والعبودية والاحتلال وانعدام الشرعية على حالها.