شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

حدث على حدود السلوم المصرية – بشار طافش

حدث على حدود السلوم المصرية – بشار طافش
الزمن 1994 إلى 1999، سنون خمسة حافلة بكثير من الأحداث هناك في ليبيا أمضيتها، ومن أهمها أحداث طرد الفلسطينيين إلى الحدود الليبية المصرية

الزمن 1994 إلى 1999، سنون خمسة حافلة بكثير من الأحداث هناك في ليبيا أمضيتها، ومن أهمها أحداث طرد الفلسطينيين إلى الحدود الليبية المصرية، إلى تلك المظاهرات التي عمت البلاد في صورة غريبة وجديدة على الليبيين خاصة في ظل حكم العقيد معمر القذافي، تلك المظاهرات التي خرج أهلها من الليبيين للتنديد بتصرفات ما سمي “بلجان التطهير” التي كان من أحد مهامها إخلاء الفلسطينيين من منازلهم وطردهم إلى الحدود بشكل وحشي وعديم الرحمة، حيث أن كثير من العوائل الفلسطينية خرجت دون أخذ حتى تلك الحاجيات الضرورية، لقد شاهدت أنا شخصيا تلك العوائل وهي تستقل الحافلات دون أن يتمكن أفرادها حتى من ارتداء أحذيتهم، هؤلاء الفلسطينيون الغزيون اللاجئون -الغير مرئيون- الذين لا يملكون جوازات سفر، هم فقط يملكون وثائق سفر إما مصرية أو سورية أو لبنانية لا تخولهم حتى دخول تلك البلاد!.

كنت شاهدا على تداعيات حربي الخليج الأولى والثانية على ليبيا وقرارات القذافي المتضاربة أبدا، حيث أصدر الأخير مرسوما للجامعات يقضي بضرورة طلب أساتذة جامعيبن عراقيين بالذات للتدريس في الجامعات الليبية، كون العراق كانت تعاني حصارا، يليهم الأساتذة الفلسطينيين خاصة من فلسطينيي سوريا والأردن، وهذا موقف يحسب للعقيد كونه يجسد التعاطف والتعاضد العربي.

هؤلاء الفلسطينيون الذين تعاطف معهم العقيد شهدوا التنكيل بالعوائل الفلسطينية من قبل لجان التطهير وهم يطردوا إلى الحدود المصرية، حتى أن الليبي نفسه سئم قرارات القذافي المتضاربة والغريبة.

آخر يوم لي في ليبيا ركبت الحافلة التابعة لشركة “اﻹتحاد العربي” من طرابلس متجها إلى حدود السلوم -حدود ليبيا مع مصر- عائدا إلى بلدي بعد أن أنهيت دراستي الجامعية هناك، الزمن 1999 قبيل اﻷلفية الثالثة بشهور قليلة، كان معظم من بالحافلة من السوريين وعائلة يمنية من رجل وامرأة وطفلة رضيعة، وأنا.

كانت ليبيا ترزح تحت الحصار في ظل نظام العقيد معمر القذافي، فلا طيران دولي، لذلك لم أذهب إلى بلدي على مدار السنتين الآخرتين من دراستي، الغريب أنني شاهدت عديد اﻵليات العسكرية الليبية المدرعة وغير المدرعة قبيل الحدود المصرية، في مشهد غريب ومروع أحيانا، وصلنا إلى حدود السلوم على الجانب المصري تمام التاسعة مساء، دخلنا مبنى ملىء بالنوافذ وملىء أيضا بالأوراق الملقاة على اﻷرض، كم هائل من الأوراق التي يبدو أنها أوراق خاصة بتعبئة معلومات المسافر عليها، كانت تلدو كسجادة سميكة من الأوراق المبعثرة، كان في آخر هذا المبنى مستطيل الشكل كاونتر من رخام يبدو، وعليه زجاج يفصل بيننا وبين الموظفين خلفه، حتى أنك لا تكاد ترى الموظف من خلفه لشدة إتشاحه ببصمات الأصابع والأيادي وتوشيحات أخرى، أخذ الموظف الوحيد من خلف الزجاج جوازات سفرنا وقال لنا بنبرة عالية “إنتو هتتحولو أمن دولة، كلكم” ثم نادى “يا ابني” وحضر عسكري يرتدي لباس الشرطة المصرية الأبيض كان باديا على هذا العسكري أنه لا مبالي البتة بهندامه ونظافته، ثم أخبره الموظف قائلا “خد يا ابني ودي بسابورتات كل ركاب الاتوبيس مكتب أمن الدولة”.

أخذ الشرطي جوازات سفرنا كاملة وسط اعتراض بعض الركاب السوريين حيث قام الموظف بصدهم بشدة مع صراخ عالي وشتائم نابية، أحدهم سأل الشرطي ذو الهندام الغريب “شو في؟” فأجابه الشرطي “في إيه يا حبيب أمك، دا إنتو هتتنفخوا جوة” يقصد في مكتب أمن الدولة، أثناء ذلك انهارت السيدة اليمنية وسط بكائها الشديد ومحاولة زوجها وبعض النسوة السوريات من تهدئة روعها.

جلسنا مكدسين أمام مكتب أمن الدولة، بينما كان ضابط أمن الدولة المناوب ينادينا تباعا ويسألنا أسئلة غاية في الغرابة، من قبيل “لاحظت حاجة غريبة على حدود الجانب الليبي؟ شفت آليات عسكرية لببية هناك؟ هم الليبيين بيعملوا كدة ليه برأيك؟ إثبتلي إنك سوري وجواز سفرك دا مش مزور، إثبتلي إنك يمني ودي مراتك ودي بنتك” ثم تنهار السيدة اليمنية مجددا وسط صراخ الطفلة، يصرخ ضابط أمن الدولة الغريب الأطوار واﻷسئلة قائلا “خرجوا دي برا يلا، وديني لطلع عين أهاليكو عليكو”.

أما أنا فكانت أسئلته لي أشد غرابة واستفزازا من قبيل “انت فلسطيني، والا أردني فلسطيني، والا أردني أردني؟ طب ما دامك أردني فين دفتر الخدمة العسكرية بتاعك؟ إسمع يلة، مش هتخرج من هنا إلا لما تجيب دفتر الخدمة العسكرية بتاعك وتثبتلي إنك أردني مش فلسطيني أردني، سامع؟.

في تلك الأثناء كان يمر من خلالنا الشرطي ذو الهندام الغريب والقذر وهو يقول “عاملين علينا سوريين يا كدابين، دا فلان الضابط إللي جوة هو اللي هيخلص البلد منكو ومن بلاويكو” طبعا نحن مسافرو عبور فقط، أي أننا لن نستقر في مصر بل سنذهب إلى سيناء ومن ثم ميناء نيوبع إلى ميناء العقبة الأردنية، ومؤكد أن الجانب المصري يعلم ذلك تماما من بيانات المسافر لديهم من أين دخل ومن أين خرج، شىء غريب ما يحصل معنا على حد تعبير بعض السوريين، يرد عليه آخر “أنا كل ما يكون وصولي للحدود المصرية البرية بالليل يحدث معي نفس الأمر تقريبا وما هي إلا ساعات حتى يتغير الشفت وتنفرج الأمور” آخر يقول “بعض ضباط أمن الدولة عديمي الوطنية والمسؤولية يتفقون مع شرطة الحدود كي يبتزوا المسافرين ويتقاضوا منهم الرشوة”.

بقينا أمام مكتب أمن الدولة من الساعة التاسعة والنصف مساء حتى الساعة السابعة والنصف صباحا، وسط عدم موافقة السوريين كونهم أكثر الركاب عددا في الحافلة من دفع الرشوة لضابط أمن الدولة كي يفرج عن جوازات سفرنا، لم ينفك يمر علينا ذاك الشرطي غريب الهندام وهو يسمعنا عبارات على نحو “كان غيركم أشطر، والله لتعفنوا في السجون، يا جواسيس جايين تخربوا البلد؟!” لم يفلح الرجال السوريين هذه المرة من التهدئة من روع كثير من النسوة السوريات إلى جانب تلك السيدة اليمنية وسط بكائهن و -اللطم- على الخدود أحيانا وبكاء بعض الأطفال والفتيات من حولهن.

كان الفرج على يد ضابط أمن دولة آخر مع شروق شمس صباح ذاك اليوم حين تفاجأ من الكم الهائل من جوازات السفر التي كانت متناثرة على مكتبه الذي استلمه من الضابط سىء الأخلاق، رفع أحد هذه الجوازات وكان بالصدفة جواز سفري أنا، ثم ناداني بإسمي “يا ابني” فدخلت المكتب، ثم سألني “هو في إيه، كم ساعة خلاكم إبن….. تستنوا على باب مكتبه؟” 
أجبته “بالنسبة لهوة في إيه؟ أنتم سيدي أعلم بذلك منا، أما كام ساعة؟ فنحن هناك منذ التاسعة مساء”.

لقد استاء الضابط دمث الأخلاق بشدة من هذا التصرف الذي سئم كثرة حدوثه، وسئم أيضا عدم قدرته على  التصرف حياله، وقام بشتم الكثير من المسؤولين الذين ربما هم وراء هذه التصرفات العنصرية الحقيرة الرخيصة على حد تعبيره، ثم أمر شرطيا آخر قد حضر لاستلام ورديته غير أنه تميز أيضا بسوء هندامه، أمره بإنهاء أمورنا اﻹدارية من أختام وفحص الجوازات، وطلب منه سرعة تنفيذ ذلك وبنفسه وعدم إزعاج أيا منا.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023