تُعد الإمارات واحدة من أكثر الحكومات قمعية في العالم؛ فهي تمثّل ديكتاتورية قمعية ضد المعارضة الداخلية، وتفرض ظروفًا تعسفية على قوتها العاملة الضخمة من العمال المهاجرين، كما تلعب دورًا رئيسًا في الحرب الدموية في اليمن؛ حيث تدير فيه شبكة من سجون التعذيب في الأجزاء الواقعة تحت سيطرتها من البلاد.
هذا يجعل دولة الإمارات العربية المتحدة نادرًا ما تُنتقد من مؤسسات الفكر والرأي المرموقة في واشنطن، التي لا تكتفي بتجاهل القمع في الديكتاتورية الخليجية؛ بل تقدّم أيضًا منصة متميزة لسفيرها «يوسف العتيبة».
يعرف «يوسف» بأنه صوت مؤثر في السياسة الخارجية الأميركية، وأنه يغدق الأمول في واشنطن لتجنيد الحلفاء.
في الشهر الماضي، نشر قراصنة رسائل مسربة من البريد الإلكتروني الذي يستخدمه السفير الإماراتي في أعماله الرسمية، وتوفر المجموعة الأحدث من هذه الرسائل نظرة ثاقبة الطريقة التي يشتري بها الأصدقاء في مراكز الفكر الأميركية. وتقدم الرسائل لمحة عن الطريقة التي اكتسبت بها البلدة الغنية بالنفط هذا التأثير المبالغ فيه ضمن السياسة الخارجية الأميركية.
ربع مليون دولار
وتُظهر رسالة فاتورة موجهة إلى «مركز الأمن الأميركي الجديد»، وهو مؤسسة أبحاث وطنية مؤثرة أسسها في عام 2007 مسؤولون سابقون في إدارة «كلينتون»، المؤرخة في يوم 12 يوليو 2016، دفع السفارة الإماراتية مبلغ 250 ألف دولار مقابل ورقة بشأن النظام القانوني الذي يحكم تصدير الطائرات من دون طيار العسكرية.
وذيلت الفاتورة بإمضاء «ميشيل فلورنوي»، مسؤولة بارزة في البنتاغون تحت قيادة الرئيس «باراك أوباما»، وكان من المتوقع على نطاق واسع أن «هيلاري كلينتون» ستعينها وزيرة للدفاع إذا فازت بالرئاسة، كما أنها عضو مؤسس لمركز الأمن الأميركي وتشغل حاليًا منصب المدير التنفيذي.
تعتبر مراكز التفكير مؤسسات مستقلة، ولكنها غالبًا ما تموّل من شركات الأسلحة وبنوك وول ستريت، وحتى الحكومات الأجنبية. ويتحلى مركز الأمن الأميركي بالشفافية بشأن تلقيه أموالًا من الإمارات العربية المتحدة؛ وتظهر السفارة الإماراتية ضمن مانحيه على الموقع الرسمي. ولكن، غالبًا ما تؤكد هذه المؤسسات أن باحثيها مستقلون عن مانحيهم، وأن تحليلهم يعكس إيمانهم الشخصي وليس مصلحة المانحين الأقوياء.
ولكنّ الفاتورة المسربة تعكس صورة مختلفة: علاقة وثيقة بين المركز الأميركي والسفير الإماراتي، مع دفع السفير مقابل إخراج أوراق محددة ومناقشة الآراء مع المؤلفين. وأوضح «العتيبة» فيما بعد للمسؤولين عن كتابة أوراق السياسة كيف ستُستخدم الوثائق لدفع برنامج الطائرات من دون طيار لدولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي خانة الوصف الخاصة بها، تفيد الفاتورة بأن الأموال قُدّمت من أجل دعم دراسة المركز عن أنظمة التحكم في تكنولوجيا القذائف الصاروخية. وتلفت هذه الدراسة إلى اتفاق ضم 35 دولة يحكم تصدير أسلحة عسكرية كبرى، ويمكن للبلدان التقدم بطلب للحصول على عضوية في هذه اللجنة من أجل تصبح مؤهلة لشراء هذه الأسلحة.
ومثّل نظام مراقبة تكنولوجيا القذائف صداعًا لصناعة الطائرات من دون طيار؛ لأن بعض منتجاتها تصنف على أنها صواريخ، ما يجعلها أكثر صعوبة في التصدير. كما يثير النظام غضب حلفاء الولايات المتحدة الذين يرغبون في الحصول على طائرات من دون طيار هجومية متطورة.
وكانت الإمارات من البلدان التي واجهت صعوبات بسبب تطبيق هذا النظام. ومنعت إدارة «أوباما» بيع أنظمة أسلحة إلى الإمارات؛ لأن النظام يمنع بيعها خارج الدائرة المحددة. ودفع مشرّعون في إدارة ترامب إلى السماح بإتمام البيع.
وينطوي جزء من حملة السماح لدولة الإمارات بشراء الطائرات من دون طيار على عمل لمراكز الفكر. وفقًا لرسائل البريد الإلكتروني، طلب «العتيبة» إعداد ورقة خاصة من مركز الأمن الأميركي عن الأمر. وفي 24 يونيو 2016، أرسلت «فلورنوري» إلى «يوسف العتيبة» رسالة نصها: «هذا هو مخططنا المبدئي لدراسة لتحليل الفوائد والتكاليف المحتملة لدولة الإمارات العربية المتحدة من الانضمام إلى نظام مراقبة تكنولوجيا القذائف كما ناقشنا. واسمح لنا أن تعرف إذا كان هذا يطابق ما طلبتموه».
وفي 11 يوليو، تابعت «فلورنوي» مع «العتيبة» قائلة: «نحن نعتقد أن الدراسة يمكن أن تتم مقابل 250 ألف دولار. ويسرنا أن نرسل لك اقتراحًا منقحًا هذا الأسبوع إذا كان ذلك مقبولًا». وفي رسالة إلكترونية إلى «العتيبة» في نوفمبر 2016، تحدّث «إيلان جولدنبرج»، مدير برنامج الأمن في الشرق الأوسط التابع للمركز، صراحة بشأن الدعم الإماراتي للورقة، منوهًا أنّ هذا موعد تقديم الشريحة الثانية من قيمة دعم الورقة البحثية.
و«جولدنبرج» أحد المخضرمين السابقين في إدارة «أوباما»، وتولى قيادة مكتب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات الإيرانية، ويعمل حاليًا زميلًا لمعهد الأمن الأميركي.
وفي فبراير من هذا العام، أرسل «جولدنبرج» الدراسة إلى «العتيبة» عبر البريد الإلكتروني، الذي مررها بدوره إلى مسؤولين رفيعي المستوى في حكومة الإمارات.
وفي شهر مايو، أرسل «عتيبة» رسالة إلكترونية إلى «فلورنوي» و«جولدنبرج» يشيد فيها بالدراسة والدور الذي لعبته في دفع جدول أعمال الديكتاتورية الخليجية. وقال «العتيبة» إنه يعتقد أن الدراسة ستساعد في «دفع النقاش في الاتجاه الصحيح. بعض منتجي الطائرات من دون طيار وصلوا إلى نتائج مماثلة؛ لذا فإن هذا التقرير يؤكد من جديد حججهم».
وفي يونيو، أصدر المركز ورقة عامة حوت الاستنتاجات نفسها، قال فيها إنّ «تردد الولايات المتحدة في نقل الطائرات من دون طيار يضر بالمصالح الأميركية بطرق ملموسة. وقال إن بلدانًا تتحول الآن إلى الصين للحصول على التكنولوجيا، منوهة أن الإمارات العربية المتحدة واحدة من هذه الدول التي حُرمت من مبيعات طائرات من دون طيار؛ وبدلًا من ذلك تحولت إلى الصين». وكان الهدف المعلن من الورقة دفع إدارة «ترامب» إلى تنفيذ البيع.
وأكد «نيل أورويتز»، المتحدث باسم مركز الأمن الأميركي، لموقع ذا إنترسبت، أنّ المؤسسة قبلت 250 ألف دولار لإنتاج الورقة الخاصة لمسؤولي دولة الإمارات العربية المتحدة؛ ولكنها أكدت أن نتائج الورقة العامة والخاصة امتثلت إلى سياسة المركز الفكرية التي تؤكد استقلال الباحثين وسيطرتهم الكاملة على أي محتوى ممول كليًا أو جزئيًا.
وقال «أورويتز» إنّ المركز كشف عن تلقيه المال من الإمارات العربية المتحدة، سواء على موقعه على الإنترنت أو حتى في شهادة خبرائه أمام الكونجرس. كما أكدت أن المركز لم يتلق أي أموال من الإمارات العربية المتحدة قبل عام 2016.
تكنولوجيا المراقبة
وتظهر رسائل أخرى مؤرخة بين فبراير ومارس استخدام «فلونوري» بريدًا إلكترونيًا خاصًا للاتصال بـ«العتيبة» وطلبت منه المساعدة في ترويج بيع تكنولوجيا المراقبة الإلكترونية من شركة مقرها الولايات المتحدة إلى الإمارات العربية المتحدة.
وتعتبر حكومة الإمارات مستهلكًا شائعًا لتكنولوجيا المراقبة، واشترت مرارًا أدوات التجسس الإلكترونية من الدول الغربية للتجسس على للمعارضين السياسيين.
وفي أكتوبر، أفادت إنترسبت بأنّ الإمارات العربية المتحدة تجنّد جيشًا صغيرًا من القراصنة الغربيين الذين يساعدون على تحويل الإمارات إلى دولة المراقبة الأكثر تطورًا في العالم.
وفي رسالة بريد إلكتروني إلى «العتيبة» في فبراير 2013، أعربت «فلونوري» عن فزعها من تجنب شركة دو الإماراتية الكبرى للاتصالات شراء تكنولوجيا خدمات تعتمد على الموقع من شركة بولاريس ويريليس المتخصصة في تتبع الأجهزة الإلكترونية. وتعلن بولاريس على موقعها على الإنترنت عن تكنولوجيا استخبارات لاسلكية يمكن استخدامها في «تحديد المشتبه بهم المعروفين وتتبعهم». وتمتلك الشركة مكتبًا خاصًا في دبي.
وقالت فلورنوي لـ«العتيبة» إنها «مهتمة للغاية برؤية الإمارات العربية المتحدة لديها هذه القدرة كشريك أمني رئيس»، وطلبت منه التدخل لدى وزارة الداخلية والمساعدة في عقد اجتماع لكبار المسؤولين التنفيذيين مع بولاريس.
وكتب «العتيبة» في رده على «فلورنوي» أنّه سيكون من دواعي سروره أن يفعل ذلك، ولكن وزارة الداخلية كبيرة جدًا. وطلبت «فلورنوي» من «العتيبة» أن يعطي بولاريس فرصة لمجرد إطلاع كبار مسؤولين في الوزارة على القدرات التي يوفرها نظامهم.
وقال «نيكولاس ماكجيهان»، باحث في هيومن رايتس ووتش، عن الإمارات العربية المتحدة، إنّ الناشطين فيها مقتنعون بأن الحكومة تستخدم المراقبة الإلكترونية لتتبعهم. وأكّد بالقول: «عندما تمكّنا مؤخرًا من الدخول إلى الإمارات -في يناير 2014- كان الناشطون المحليون الذين التقينا بهم يتركون هواتفهم المحمولة في المنزل كلما سافروا؛ لأنهم لم يرغبوا أن تعرف السلطات أماكنهم. لقد كانوا واثقين أن هواتفهم تُستخدم لتتبعهم».
ولم ينكر «أورويتز»، المتحدث باسم مركز الأمن الأميركي، وقوع هذه المحادثات من «فلورنوي»؛ لكنه أكد أنه لا علاقة بينها وبين عملها في المركز.
«عرفت ميشيل فلورنوي يوسف العتيبة لسنوات، سواء داخل الحكومة أو خارجها، وحديثها عن القدرات الأمنية لدولة الإمارات لا علاقة له بعملها في المركز». وتعمل «فلورنوي» أيضًا مستشارة كبرى لمجموعة بوسطن الاستشارية المتخصصة في الأمن والدفاع.
رحلة فاخرة على نفقة الإمارات
وفي مارس، أرسلت مجموعة هاربور، شركة علاقات عامة مقرها العاصمة وتعمل لصالح الإمارات، مذكرة إلى «العتيبة» توضح تفاصيل رحلة مدعومة إلى الإمارات لباحثين بارزين.
وقالت الرسالة: «نحن نعمل مع براين كاتوليس من مركز التقدم الأميركي وإيلان جولدنبرج من مركز الأمن الأميركي الجديد لتنظيم جولة دراسية مدعومة من السفارة لخبراء الأمن الوطني إلى الإمارات في ربيع هذا العام». ويعتبر مركز التقدم الأميركي أحد أكثر مراكز الديمقراطيين تأثيرًا.
سُمّي «كاتوليس» و«جولدنبرج» منظمين للرحلة، ومن بين الحضور المؤكدين الآخرين كان هناك «كيم كاجان» من معهد دراسات الحرب، «ودانيال بليتكا» من معهد أميركان إنتربرايز المحافظ المرتبط بالجمهوريين.
وشملت قائمة الحضور الإضافيين غير المؤكدين رئيس مركز الأمن الأميركي «جون فونتين» و«جون بوديستا»، مؤسس مركز التقدم الأميركي الذي عمل سابقًا في إدارتي بيل كلينتون وباراك أوباما.
وضمت الرسالة اقتراحًا لجدول أعمال الرحلة: «بالإضافة إلى لقاء كبار المسؤولين الأمنيين ومسؤولي السياسة الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة، نقترح أن يضم البرنامج زيارة لوكالة الفضاء ومركز الخدمة العامة وجولات تعريفية للاطلاع على المشهد الثقافي في البلاد».
ومن بين المسؤولين الذين كان من المقرر أن تلتقي بهم هذه المجموعة «محمد بن زايد»، ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية. ولم يُدرج أي معارضين أو ناشطين أو محامين لحقوق الإنسان ضمن المشاركين في الاجتماعات.
وقالت الرسالة إن تكاليف الرحلة ستكون ممولة بالكامل من دولة الإمارات العربية المتحدة؛ بحيث تغطي السفارة أسعار تذاكر درجة أعمال للمجموعة بمبلغ 150 ألف دولار أميركي، إضافة إلى تكاليف الفنادق والوجبات والانتقالات الداخلية.
وأكد «أورويتز» أن خبراءه سافروا إلى الإمارات كجزء من «رحلتين منفصلتين لخبراء الفكر»، ووصفا بأنها «بعثات لتقصي الحقائق».
وقال «أورويتز»: «نظمت دولة الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع مركز أبحاث شريك، بعثات لتقصي الحقائق»، مؤكدًا أن عشرات الدول تنظم مثل هذه الرحلات لخبراء الأمن الأميركيين.
وفي رسائل موجهة إلى «العتيبة»، كان المسؤولون الإماراتيون واضحين بأن الهدف من هذه الرحلات التأثير على صُنّاع القرار في الولايات المتحدة ليكونوا متعاطفين مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني بتاريخ 18 أبريل من هذا العام، وصفت «صغيرة الأحبابي»، مسؤولة الشؤون السياسية في السفارة الإماراتية، أهمية الرحلة المذكورة بأن «عديدين من هؤلاء الخبراء خدموا في مناصب حكومية أميركية رفيعة، وهم على صلة بصناع القرار». وأضافت أنّ الهدف من الرحلة «تثقيف هؤلاء المحللين السياسيين ذوي النفوذ بسياسات دولة الإمارات العربية المتحدة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الرئيسة، وتأكيد التعاون العسكري الوثيق بين واشنطن وأبو ظبي».
ويلفت بريد إلكتروني منفصل إلى أن «كاتوليس» أدى دورًا في تنسيق الرحلات إلى دولة الإمارات العربية المتحدة مع مجموعة هاربور في أكتوبر 2015 حين نظم رحلة لخبراء من الديمقراطيين والجمهوريين.
وأثنى «كاتوليس» على الرسائل التي تحاول حكومة دولة الإمارات توصيلها من هذه الرحلات. وقال في أعقاب الجولة الأخيرة: «أفضل ما في الرحلة أنها شملت كل شيء وضمّت مجموعة متنوعة من الاجتماعات، وكان لقاء القيادة العليا للبلاد أمرًا رائعًا»، وأضاف: «في رأيي، كانت زيارة وكالة الفضاء ومركز الخدمة الوطنية أمرًا رائعًا، وأعتقد أنه ساعد في توصيل الرسالة الرئيسة عن الوحدة والاندماج والتسامح».