تتعدى أسباب الخلاف بين مصر والسودان زيارة الرئيس التركي وعقد إيجار سواكن وسدّ النهضة الإثيوبي ومثلث حلايب وشلاتين، كما يذكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم «عطا البطحاني» في مقاله بصحيفة «ميدل إيست آي»؛ ويرى أنّ انعدام الأمن والثقة بين الطرفين عامل مساهم، عزّزه صعود الإسلاميين في مصر الأعوام الماضية؛ إذ تتهم القاهرة السودان بدعمه للإخوان وهذا أحد العوامل المسؤولة عن صعودهم في مصر، مؤكدًا أنّ زيارة أردوغان للسودان لها علاقة بمحاولة النظام السوداني القضاء على شعوره بالخوف والشكّ.
ووفق ما ترجمت «شبكة رصد»، استبعد فكرة المواجهة العسكرية بين مصر والسودان، مؤكدًا أنّ المواجهات ستقتصر على المناوشات الكلامية والتصعيد والتهدئة بالتناوب فقط؛ فالسودان ليس لديه الإمكانية لخوض نزاع عسكري مع مصر، وسط تدهور الحالة الاقتصادية للدولة، والغضب الجماهيري العارم ضد النظام الحالي وانتشار الفقر.
واستدعى السودان سفيره في مصر يوم 4 يناير لإجراء مشاورات، كما قال بيان وزارة الخارجية السودانية، دون توضيح أيّ تفاصيل؛ وجاء التحرك عقب اتهامات متبادلة في وسائل إعلام البلدين واتهامات شبه رسمية، وحاول الكاتب الوقوف على الأسباب والدوافع الحقيقية للخلاف وسر اختيار التوقيت الحالي.
الأسباب
تفاقمت الخلافات بين القاهرة والخرطوم في قضايا؛ منها ملكية مثلث حلايب وشلاتين، وسدّ النهضة الإثيوبي. والعام الماضي، اتهم السودان مصر بالتدخل السياسي في شؤونه، وحظر استيراد المنتجات الزراعية المصرية. إضافة إلى ذلك، يدعم البلدان فصائل مختلفة متحاربة في ليبيا؛ بالرغم من أنّ الدولتين ليست لهما الحق في تحديد مستقبل ليبيا من الأساس.
كما اتهمت القاهرة السودان مرارًا بدعم جماعة الإخون المسلمين في مصر، وتدهورت العلاقات أكثر بعد الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان، وسماح الخرطوم لأنقرة باستئجار جزيرة سوكان وبناء قاعدة عسكرية.
وبالرغم من الجدل الذي أحاط بالزيارة؛ فليس مؤكدًا أنّ الزيارة السبب وراء تزايد التدهور في العلاقات بين مصر والسودان، في الوقت الذي تبلغ فيه العلاقت التجارية بين القاهرة وأنقرة نحو 7.5 مليارات دولار؛ وهو ما يفوق كثيرًا قيمة الصفقات والاستثمارات بين تركيا والسودان، البالغة 500 مليون دولار فقط.
ولذلك؛ الأسباب السابقة ليست كافية للإجابة عن المواجهات الدبلوماسية الحالية بين دولتي مصر والسودان.
انعدام الأمن المؤسسي
انحسار العلاقات بين البلدين أمر حقيقي وواقعي، ومسبب للقلق، وله علاقة فعلًا بالأسباب المذكورة أعلاه؛ لكنّ هناك سببًا آخر مرتبطًا بشدة، وهو انعدام الأمن المؤسسي المرتبط بطبيعة النظامين المختلفين، وعزّز هذا التعارض من المخاوف بدرجات متفاوتة.
وبعبارة أخرى: يرتبط الأمر بانعدام الثقة العميقة بين البلدين؛ وهو ما يشكّل تهديدًا وجوديًا يشعر به كل طرف على حدة.
وشكّ مصر في الجانب السوداني جاء بسبب تداعيات الربيع العربي وشبح صعود الإسلاميين، وتعتبر مصر السودان عاملًا مساهمًا في تصاعدهم منذ أيام الحركة المهدية الدينية التي أنهت الحكم التركي المصري للسودان، وتمكّنت الحكومة السودانية من قلب الطاولة على مصر باستخدام بطاقة الحركة الإسلامية.
فعندما استولى الإسلاميون على السلطة في السودان عبر انقلاب عسكري عام 1989، تسبّب في صدمات هزت جسد النظام السياسي في مصر. وبطبيعة الحال، استجابت مصر عن طريق دعمها للحركات السودانية المعارضة، واحتلت مثلث حلايب.
ومما زاد الأمور سوءًا في مصر النزعة السياسية والانتخابية لجماعة الإخوان المسلمين في أعقاب موجة الربيع العربي، والإطاحة بهم في 2013، ووقوع البلاد في دوامة صراع داخلي؛ زاد من نقطة ضعف النظام الحالي.
لكنّ الحقيقة أنّ جماعة الإخوان وتحركاتها في مصر لم تشكّل تهديدًا خطيرًا كما يدّعي النظام المصري، ويُرجع المسؤولون المصريون صمودها إلى الحدود الجنوبية لمصر؛ أي من السودان.
وينبع شكّ السودان في النظام المصري ويتجسّد في هيكلها السياسي منذ انقلاب يونيو 1989؛ إذ استمرت الصراعات الداخلية بلا هوداة، وانتهى الأمر بانفصال جنوب السودان عن شماله في 2011، آخذًا معه عائدات النفط ووقوع مذبحة دارفور، التي تتهم فيها المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني ومسؤولين كبارًا في الدولة.
وأدّت هذه التطورات إلى انعدام الثقة في الأمن. والواقع أنّ السودان أكثر عرضة للخطر من مصر عندما يتعلق الأمر ببقاء النظام على قيد الحياة.
ويعزز انعدام الأمن في البلدين، بعد تطابقهما في طبيعتهما، أنّ النظام المصري عسكري كلاسيكي وشبه مؤسسي، بينما السودان خضع إلى تغييرات عبر العقود الماضية، في عهد الإسلاميين، وتأسس الجيش الأول ثم الحزب الأوحد، والآن الاستبداد الشخصي، وفقد عاداته النفطية وأصبح اقتصاده أكثر عرضة للتغيرات الاقتصادية والمالية المتقلبة في المنطقة؛ وشكّلت هذه التحديات السياسية خطرًا على حياة النظام هناك.
أولويات السياسة الخارجية
ويحركّ السياسة الخارجية للسودان هواة، لا مهنيين محترفين؛ وفشلوا في إخماد مخاوف البلد من انعدام الأمن، كما لم يساهم وقوفها مع التحالف السعودي في اليمن أو رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية في تحسين الوضع الاقتصادي المتردي؛ كما يتضح من أرقام ميزانية 2018.
وتأتي زيارة الرئيس التركي الأخيرة للسودان إلى رغبة البشير في جذب الأعمال التجارية ورأس المال التركي والتخفيف من الإحساس بانعدام الأمن؛ لكنّ الزيارة واتفاقية سواكن تهددان بتحويل منطقة البحر الأحمر إلى منطقة أمنية تنافسية بين أطراف متعددة في الشرق الأوسط والخليج وإفريقيا، كما تهدد بإغراق المنطقة في حالة من النزاعات التي يصعب التنبؤ بنتائجها.
ومن المتوقع ألا تستمر الحالة المعادية لمصر في السودان؛ بسبب تدهور الاقتصاد وانتشار الفقر والغضب الجماهيري والوقوع في بحر مشكوك من الجغرافيا السياسية. وتحاول الدائرة الدبلوماسية السودانية وضع حد الآن، وسرّ تحسن الاقتصاد السوداني والمكانة الدولية له لا يحددهما العلاقة بالعالم الخارجي؛ والعلاج لا بد أن يأتي من الداخل وليس الخارج.
ومن المتوقع أيضًا استمرار سيناريو التصعيد والتخفيف بين الدولتين، وسط تحركات من دول الجوار لتعويض انهيار التوازن الهش في العلاقات بينهما.