«فلان مات، الله يرحمه».. «الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة».. «اذكروا محاسن موتاكم».
لو كنت مصريا بالأساس فلا بد أنك استمعت أو قلت تلك العبارات أو إحداها في أي موقف يتعلق بالموت قد مر عليك قبل سنوات مصر السبع العجاف الماضية. كان الشخص يموت فتنهال عليه الدعوات بالرحمة ممن عرفه وممن لم يعرفه يوما.. كانت الجنازة تمر من شارع ما فيقف كل من في الشارع من يجلسون على المقاهي ومن بداخل المحلات، الجميع يخرج للشارع ليرفع إصبع السبابة بيده اليمنى إلى الأعلى (بعلامة التوحيد)، ثم يتحول الشارع إلى ما يشبه خلية نحل تصدر أصوات الهمهمة التي تدعو للميت بالرحمة تارة وتتمتم بلا إله إلا الله تارة أخرى. حضرت هذا المشهد أكثر من مرة في مصر دون أن يسأل المارة عن هوية الميت.
أحمد محمد علي الكاملي، شاب مصري يخدم في القوات المسلحة المصرية كمجند داخل شمال سيناء، طالته طلقات الغدر وعبواته الناسفة فقضى نحبه شهيدا، ومات رجلا كما أراد وكتب عبر حسابه قبل أيام. الكاملي استشهد برفقة تسعة آخرين من زملائه في استهداف كمين في منطقة بئر العبد في شمال سيناء، حسب ما أعلن المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية. الأمر كان يسير على ما يرام حتى بدأ البعض في البحث في حياة الموتى، والمحاكمة قبل الدعاء بالرحمة، فكانوا كمن مثل بالجثة بعد موتها، ولم يعطوا كرامة لميت أو شفاعة لشهيد أو حرمة لدماء سالت.
ضبطوه متلبسا بمعارضة السيسي، وألقوا القبض عليه وهو يترحم على الرئيس الراحل محمد مرسي مع سبق الإصرار والترصد، عاثوا في حسابه على موقع فيسبوك فسادا، قلبوا في صوره القديمة ومنشوراته السابقة ليثبتوا أن شهيد القوات المسلحة ليس بشهيد ولا يستحق هذا اللقب، إنه إخواني خائن باع وطنه لصالح مرسي وأعوانه.. هكذا كتبوا، وذهب بعضهم في الخسة مذهبا واتهموا الشاب المقتول بأنه من وشى بزملائه ومن تعاون مع الإرهابيين لتنفيذ العملية تجاه الجيش الوطني الشريف.
تعليقات بالمئات على صورة سخر فيها الشهيد من جنرال يستحق السخرية، فنالوا منه ومن عائلته ومن حياته وسبوه وشتموه ولعنوه وتمنوا له حياة في قعر الجحيم.
في الأسبوع الماضي كتبت عن مسلسل الاختيار وحالة هيستيريا الوطنية الزائفة التي يحاول النظام صناعتها وإعادة تدوير حالة الاستقطاب الشعبي مرة أخرى، ويبدو أن نتاج تلك الحالة قد ظهر سريعا في الهجوم على الشهيد الكاملي، فتحول قطاع من الشعب المصري بفعل خطاب التحريض إلى زومبي، كائنات لا تعرف شيئا عن حرمة الميت ولا تحترم له كرامة.. أصبح الجميع من كل الاتجاهات للأسف يذهبون إلى صفحة هذا أو مقالات ذاك ليتعرفوا على مواقفه بداية وماذا كتب وهل هو معنا ام علينا، ثم يتدارسون أمره فيما بينهم لتخرج المحكمة بقرار؛ فإما رحمات ودعوات وهاشتاجات تخلد ذكراه، وإما منشورات وتغريدات وتعليقات تسبه وتلعنه حيا وميتا، وهذا حرفيا ما يريده هذا النظام العسكري.
كثيرا ما تساءلت بيني وبين نفسي عن شكل مصر، وهنا أتحدث عن شكلها الشعبي وليس السياسي أو من يحكمها إذا ما رحل السيسي إلى غير رجعة.. كيف سيقبل المصريون أن يتعايشوا معا مرة أخرى؟
وزارة الصحة تقول إنها في طريقها لوضع خطة للتعايش مع وباء كورونا، ولكني أرى أن الأولى أن يحاول الجميع الآن وضع خطة عاجلة لآلية تعايش المصريين مع بعضهم البعض مرة أخرى. الأمر يتوجب ظهور مجموعة تقدم العقل والمنطق والأخلاق على السياسة والعواطف والانتصار للنفس، فما تعيشه مصر وشعبها الآن إذا ما استمر فنهايته ستكون وخيمة، وعواقبه ستكون قاسية على هذا الشعب الطيب الذي تلاعبت به أنظمة عسكرية وأموال خليجية على مدار عقود، فأفسدت صالحه ودمرت قيمه وزرعت بين جنباته فتنة لا يبدو أنها ستنجلي قريبا.
الأمر لا يتوقف عند مصالحة مجتمعية، ولكنه يمتد لمعالجة نفسية للأمراض التي خلفها وزرعها هذا النظام في عقول ونفوس المصريين. ولتكن البداية بالترحم على الميت قبل محاكمته سياسيا، فربما أيقظ هذا ضميرا إنسانيا أماته الانقلاب العسكري منذ سبع سنوات.