ثمة شعور عام، بأن أحسن قوم هم قومي، و أحسن لسان هو لساني، و أحسن دم هو دمي، و أحسن شارع هو حارتنا، أفضل من خطا على الأرض أهلي، و أفضل دين ديني، و أفضل ثقافة ثقافتي، و أفضل حضارة حضارتي. ثمة شعور أني ابن السماء.
ثمة علم بأن ما مضى هو أفضل ما كان، أن ما كان هو العصر الذهبي ولن يعود، أن ما كان أبدع ما يكون. ثمة حديث أحفظه يخبرني أني الفرقة الناجية، أني المختار من بين الأمم، و أني المختار من بين الموحدين، و أني الوحيد على الحق. ثمة علم عندي بما سيحدث في المستقبل، أنا أحفظ أحداث النهاية كاملة، بترتيبها بوقائعها، لدي إيمان عميق أن المجد كله عند إقدامي… و أن الموت وحده -الذي أخافه- هو الذي يفصلني عن الجنة.
هل هذا أمر الله فينا؟
أشك. لا أظن. لا أحسب، لا أعتقد.
فمسلمي الأرض لا ينطقون العربية في أغلبهم، أفضل أيامنا لم تحدث بعد… ما زلت أنتظر الأستاذية لم يكن للعصر الذهبي المزعوم ثقافة بذاته، و إنما خلقها بما امتص من ثقافات أخرى… بما نهل منها، منهم، و صار يخرج –ذلك العصر- كل جديد، كل يوم… إلى أن مات، توفي، اغتيل، قتل… بفكرة: ثمة يقين بأننا الأفضل لمجرد أننا الأفضل. ثمة أفكار تقتل أصحابها: أننا لن نكون أفضل مما كنا!
أنت لا تعرف من "المختار"، أنت مختارا فقط حين تضطهد بما أوكلت له… بغير ذلك أنت مثل الجميع، ربما أنت فتنة لغيرك و حجة لهم على ما تظن أن الله اختارك لأجله…
في ذلك اليوم، في ليلة كنا نظنها القدر، وقفنا صفا، طويلا. صفا ضمن مئات الصفوف الأخرى. ضمن آلاف الباكيين، المتضرعين على أقدامهم لساعات. كل هذا الحشد، يا الله على إيمانكم. و بكيت، بكيت كثيرا، و أدمعت حتى احتبست أنفاسي، و ضاق صدري ولم يفرج إلا بدعاء. دعوت ربي أن اقدر لي من أمر قومي خيرا، يا رب إلى من تكلنا؟ يا رب إلى من تكلنا؟
و سلمت، و هدأ روعي، و سكنت. و حضر صاحبي. و شعرت بلحظة صدق، و أخبرت صاحبي، أترى إن كان محمدا قائما بيننا اليوم، أكان يصلي معنا؟ كل يوم؟ أيترك ثكلى في سوريا و يقوم الليل معنا؟ أيترك كل أمر الدنيا ليقوم و كفى؟ أترى إن كنا فتنة لغيرنا بما نحن فيه… أتراه يسكن معنا؟ أتظن أني آتيه و يراني فرحا؟ أشك.
صمت صاحبي، أتعرف، ثمة شعور، بأننا لسنا أفضل حضارة لأنه سبقنا و تبعنا حضارات عدة، و لسنا أشهر لسان لأن قليل يتحدثون لغتنا، ثمة شعور يسيطر علي أن أفضل أيامنا لم تأت بعد… و أني إن كنت أحيا فإنما أحيا لآتي بها من عين الشمس. ثمة شعور أن ما يفصلني عن الجنة و المجد ليس الموت… و إنما…فكرة.
ثمة سؤال ملح لا يهدأ كليث يتضور جوعا في موسم جفاف: ما الذي ينقصنا لنبن مجدا لم يكن قبلنا؟
ثمة طموح أكبر من طموح الأجداد، ثمة إخلاص فهد يتحين فرصة الانقضاض على فريسته، ثمة قلب يرتل أنشودة أمل و لا ينام…
ثمة ليث و فهد و نجوم و كواكب و أفلاك كلها تبحث معا عن لحظة مجد، لحظة تعزف فيها ملايين القلوب معا سيمفونية زلزال حضارة… جديدة. حضارة أفضل و أروع و أجمل مما كان. هكذا كان ثمة حديث؟! هكذا كانت…فكرة.
ثمة فكرة تولد: القادم أفضل مما كان.