قال الكاتب البريطاني، دافيد هيرست، إن تونس البلد الصغير حجما، بدلا من أن يكون منارة للتغير السلمي في الشرق الأوسط، غدا قطبا جاذبا لليمين المتطرف، بعد ما صرح به الرئيس قيس سعيد بحق المهاجرين، وأشاد به المتطرف اليمني الفرنسي إريك زمور.
ولفت في المقال المنشور في موقع “ميدل إيست آي” إلى أن الديمقراطية في تونس غدت بعد قرابة عشر سنوات في خطر.
وتساءل الكاتب: “هل سيسمح التونسيون لأنفسهم بأن يصبحوا عبيدا مرة أخرى لحاكم مستبد يجلس داخل قصر قرطاج؟”.
وتابع: “لقد انقلبت تونس رأساً على عقب. كل ما مثله هذا البلد الصغير قبل عقد مضى بات اليوم مقلوباً. حينذاك، تفاخر جيشها بأنه لا يتدخل في السياسة ولا في الأعمال، أما اليوم فالجيش لديه من ضباطه وزيران داخل الحكومة، أحدهما يحمل حقيبة الصحة والآخر يحمل حقيبة الزراعة، ويضع يده على مساحات واسعة من الأرض”.
وأشار إلى أنه “قبل عقد مضى كانت في تونس حكومة ائتلافية وأحزاب سياسية تخلوا عن السلطة طواعية، وكان فيها دستور يضمن الفصل الأساسي في السلطات بين الحكومة والبرلمان والمحاكم. كان رؤساء الوزراء يتمتعون بصلاحيات لا يتمتع بها الرؤساء، وكانت تنظم انتخابات دورية بنسب إقبال تضفي صدقية على النتيجة”.
أما اليوم، فتحكم تونس من قبل رجل واحد اسمه قيس سعيد، رئيس بصلاحيات لا حدود لها، ولكن بشرعية صفر، بحسب تعبيره.
رئاسة قيس سعيد عبارة عن حادث مروري بالسرعة البطيئة، ولكن لن يضيع كل شيء لو أن التونسيين اجتمعوا.
كم تبدو الأمور غريبة بعد مرور عشر سنين على سحق انتفاضات الربيع العربي.
تنهمك الأقطار التي سحقتها في التصالح مع البلدان التي دعمتها. وها هي المملكة العربية السعودية، الممول الرئيسي للانقلاب في مصر عام 2013، تقف من القاهرة على طرفي نقيض، والبلدان يشتبكان في حرب إعلامية شاملة.
وها هي الإمارات العربية المتحدة ترفع الحظر الذي كان مفروضاً على الجزيرة وعلى المواقع الإخبارية التي تمولها دولة قطر. وتتجاوب الجزيرة مع ذلك بجعل محتواها الخاص بأبوظبي ودبي أكثر ودية. وها هي تركيا تحصل على استثمارات بقيمة 10 مليار دولار من الإمارات، وبقيمة 5 مليار دولار من السعودية.
إلا أن الأغرب من ذلك كله هي تونس، وهي التي كانت قبل عقد من الزمن ليس فقط الشرارة التي أطلقت الثورات، بل وكذلك منارة للتحول السلمي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وها هي اليوم تدار من قبل دكتاتور رديء. وأقصد بكلمة رديء أنه شخص يجعل دكتاتوراً مثل بورقيبة أو مثل زين العابدين بن علي يبدو موزوناً بالمقارنة.
لقد انقلبت تونس رأساً على عقب. كل ما مثله هذا البلد الصغير قبل عقد مضى بات اليوم مقلوباً. حينذاك، تفاخر جيشها بأنه لا يتدخل في السياسة ولا في الأعمال.
أما اليوم، فالجيش لديه من ضباطه وزيران داخل الحكومة، أحدهما يحمل حقيبة الصحة والآخر يحمل حقيبة الزراعة، ويضع يده على مساحات واسعة من الأرض.
إذا كان تركي الحمد، الكاتب السعودي المقرب من ولي العهد محمد بن سلمان، يرى في هيمنة الجيش المصري على اقتصاد الدولة واحداً من العوامل التي تقف من وراء انهيار الاقتصاد، فضباط الجيش في تونس يسيرون على نفس خطى إخوانهم المصريين.
قبل عقد مضى، كانت في تونس حكومة ائتلافية وأحزاب سياسية تخلوا عن السلطة طواعية.
كان فيها دستور يضمن الفصل الأساسي في السلطات بين الحكومة والبرلمان والمحاكم. كان رؤساء الوزراء يتمتعون بصلاحيات لا يتمتع بها الرؤساء، وكانت تنظم انتخابات دورية بنسب إقبال تضفي صدقية على النتيجة.
أما اليوم، فتحكم تونس من قبل رجل واحد اسمه قيس سعيد، رئيس بصلاحيات لا حدود لها ولكن بشرعية صفر.
رسمياً، سُجلت نسبة اقتراع قدرها 11 بالمئة في انتخابات برلمانية نظمت في يناير . في الواقع، ربما لم تكن نسبة المشاركة مختلفة كثيراً عن الـ 8.8 بالمئة التي شهدتها الدورة الأولى في ديسمبر، وربما أقل من ذلك. أياً كان الحال، تمثل هذه الأرقام مقاطعة شاملة على مستوى القطر من قبل نفس الناس الذين كانوا قد منحوه نصراً كاسحاً في انتخابات أكتوبر من عام 2019.
أنجبت الانتخابات برلماناً تونسياً ميتاً، تم تشكيله كمؤسسة تقر لرئيس الدولة بصلاحيات مطلقة، دون أن تكون له أي سلطة رقابية على الجهاز التنفيذي.
ات جلياً لماذا كل هذا. لقد فشل مشروع قيس سعيد. باتت رفوف المحلات خالية من المواد الأولية مثل القهوة والسكر والحليب، بينما تتأخر رواتب موظفي القطاع الخاص بشكل مستمر، نظراً لأن الدولة مفلسة. وتعطلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول قرض إنقاذ بقيمة 1.9 مليار دولار.
أجبر قيس سعيد على النكوص إلى موقف دفاعي، فراح يقول إن الخلل سببه الفساد، وراح يلوم كل الناس إلا نفسه.
وكما صرح لموقع ميدل إيست آي أحمد نجيب الشابي، رئيس جبهة الخلاص الوطني: “سلطة قيس سعيد مبنية على نظرية المؤامرة. هناك شياطين، هناك متآمرون، هناك خونة، هناك محتكرون يستهدفون البلد.”
ما من شك في أن موت تونس ساعد عليه وجود معارضة عاجزة عن توحيد صفوفها. لم تحظ حركة النهضة، أكبر حزب في تونس، بدعم الأحزاب العلمانية واللبرالية في المظاهرات الأولى خارج بوابات البرلمان المغلقة. وحتى اليوم، مازالت جبهة الخلاص الوطني واتحاد الشغل يديران حملات منفصلة ويقيمان “حوارات وطنية” منفصلة.
ولكنهما يدفعان دفعاً ليحضن بعضهما بعضاً من قبل رئيس يرد على كل تحد بموجة جديدة من الاعتقالات.
مؤامرة القهوة
الصفة الوحيدة التي يشترك فيها الناس الذين يسجنهم قيس سعيد هي أنهم يأتون من الطيف السياسي بأسره.
إذا جازفت بالدفاع عن موكلك داخل المحكمة فأنت تخاطر بأن ينتهي بك الأمر وراء القضبان. بالنسبة لنشطاء مثل شيماء عيسى أو جوهر بن مبارك، جريمتهم هي أنهم رتبوا للقاء مع السفارة الأمريكية. وجهت لشيماء عيسى تهمة نشر معلومات كاذبة. ووجهت لآخرين تهم بالتآمر لإحداث نقص في المواد الغذائية المدعومة.
إلى أن ألقي القبض عليه في الشهر الماضي، كان خيام التركي، وهو ديمقراطي اجتماعي يرتب لحوارات بين معارضي قيس سعيد من العلمانيين والإسلاميين، يعمل ليلاً نهاراً من أجل تجسير الهوة بين المعارضين.
باتت الآن تعرف من باب الفكاهة السوداء باسم “مؤامرة القهوة”. فكل من زاره في بيته ليتناول القهوة معه تم إيقافه واعتقاله. يتمتع خيام التركي، الذي يحمل جنسية مزدوجة تونسية وإسبانية، بعلاقات دولية جيدة. إحدى التهم التي وجهت له هي التآمر.
لابد أنها المرة الأولى في تونس التي يعتبر فيها التحدث مع القائمة بالأعمال الأمريكية تآمراً، حيث تم تصوير لوحات أرقام سيارات حراس الأمن التابعين لها، وتستخدم الصور دليلاً على التآمر.
إلا أن البراجمتيين من مثل الشابي لديهم رؤية واضحة بشأن اتجاه المسار، حيث يقول: “ينبغي على الحركة الاجتماعية إدراك أنها تقف أمام جدار. ولذلك، من الضروري حمل السلطة على تقبل الحوار وعلى توحيد القوى السياسية والنقابية حتى تطالب بحوار وطني من شأنه أن يفتح الطريق أمام خروج تونس من الأزمة.”
ويضيف: “نرجو أن يضع اتحاد الشغل حركاته على مستوى أفق وطني بدلاً من مستوى أفق قطاعي، لأن الوضع يتطلب هذه الرؤية.”
وبينما تتعمق دكتاتورية قيس سعيد، تتقارب ألياف المعارضة المتجزئة أكثر فأكثر، ولو بقدر بوصة واحدة في كل مرة. أكثر ما يؤذي رئاسة قيس سعيد هو الاعتدال، والاستعداد للتنازل، والقدرة على تجسير الانقسامات الاجتماعية والسياسية العميقة – إنها نفس الخصال التي تميزت بها تجربة تونس مع الديمقراطية.
ثم جاء هدفه التالي. إنها أفريقيا، نفس القارة التي ينبني عليها اقتصاد وتاريخ وثقافة تونس.
“مقتلة” ضد المهاجرين
في الحادي والعشرين من فبراير أطلق قيس سعيد سيلاً من الإهانات والإساءات ضد المهاجرين غير النظاميين من الأفارقة السود.
قال قيس سعيد في رسالة رسمية من الرئاسة: “ثمة مخطط إجرامي تم إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس. وبعض الأفراد تلقوا كميات ضخمة من المال لكي يمنحوا الإقامة للمهاجرين من بلدان ما تحت الصحراء.” وقال خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي إن تدفق “جحافل المهاجرين غير النظاميين يؤدّي إلى عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة.”
لم يقتصر الهجوم على التلفظ بالكلام، بل تعرض المهاجرون الأفارقة للطرد من بيوتهم، واعتدي عليهم بالحراب، وأخضعوا للضرب، وللمضايقة المستمرة من قبل رجال الشرطة.
عدا عن انتهاك حقوق المهاجرين، تؤدي “المقتلة” التي أطلقها قيس سعيد ضد المهاجرين إلى تعريض التونسيين أنفسهم، ممن يشكلون جزءاً من الموجة البشرية العابرة للبحر المتوسط، للخطر.
لقد زادت هجرة التونسيين في عهد هذا الرئيس، إذ أعلن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن 443 شخصاً لقوا حتفهم في العام الماضي أو فقدوا أثناء محاولتهم العبور بشكل غير مشروع من تونس إلى إيطاليا، بينما تمكن حوالي عشرة آلاف مواطن تونسي من الوصول إليها، من بينهم حوالي ألفي طفل وحوالي خمسمائة امرأة.
يعيش أكثر من مليون تونسي في فرنسا، ثلاثمائة ألف منهم لم يولدوا هناك. ويعيش ثلاثمائة ألف غيرهم في إيطاليا. أية حماية يحصل عليها هؤلاء من رئيس يصف المهاجرين بالمؤامرة الإجرامية لتغيير التركيبة السكانية للبلد المضيف لهم؟
لم يبلغ قيس سعيد حد الزج بخصمه السياسي الرئيسي، الرجل الذي غدا رمزاً لتونس ما بعد العهد السلطوي – راشد الغنوشي، وراء القضبان، على الرغم من أن المحاكم أخضعت الرجل البالغ من العمر 82 عاماً لما يقرب من مائة ساعة من التحقيق، على مدى تسع استدعاءات في قضايا مريبة بنفس القدر.
مازال أمراً محيراً لماذا لم يزج بالغنوشي داخل السجن بعد. هل يحتمل أنه عندما يحدث ذلك يكون قيس سعيد قد أفلس ولم يعد مفيداً لداعميه؟ أم أنه يخشى من أن اعتقال هذا الرجل خط أحمر قد يفضي تجاوزه إلى انفجار الشغب والاضطراب؟
إلا أن ثمة فكرة واحدة تهيمن على تفكير جميع أعداء قيس سعيد الكثيرين، ألا وهي أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، سواء اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً.
مازال في الأمر سعة
لم يقدم رؤساء تونس السابقون، بورقيبة وبن علي، على إقصاء الجميع مرة واحدة.
فمن أجل قمع النقابات، يعمدون إلى تقريب الآخرين منهم. ولقمع الإخوان المسلمين يوفرون حيزاً للنخب العلمانية الليبرالية. وكلاهما استفادا من العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على ليبيا في عهد معمر القذافي.
لا ينطبق شيء من ذلك على قيس سعيد. لم تعد دول الخليج مستعدة لتمويل منظومات اقتصادية مفلسة في بلدان المغرب العربي.
هناك إيطاليا اليمين المتطرف برئاسة جورجيا ميلوني، وهناك الاهتمام المستمر من قبل أجهزة الأمن الفرنسية في دعم الدكتاتوريات في شمال أفريقيا، ولكن هؤلاء ليسوا منقذين، والجيران الكبار الأقرب، مثل الجزائر، ليسوا مسرورين بما آلت إليه الأمور في تونس.
بعد الكارثة في ليبيا، بات لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومجموعة فاغنر ما يكفي ليشغلهم منذ غزو أوكرانيا. لا يوجد جهة واحدة واضحة يمكن أن يلجأ إليها قيس سعيد طلباً للعون. بل على العكس من ذلك، لا يوجد اهتمام لا من قبل الولايات المتحدة ولا من قبل الاتحاد الأوروبي بالاشتباك، فهم قانعون، تارة أخرى وبنفس القدر من الكارثية، بالقيادة من الخلف.
تونس بلد صغير ولا أهمية له.
بدلاً من أن تكون منارة للتغيير السلمي في الشرق الأوسط، غدت تونس قطباً جاذباً لليمين المتطرف. لقد أشاد إريك زمور، الزعيم اليميني المتطرف في فرنسا، بما صرح به قيس سعيد حول المهاجرين، قائلاً: “تريد تونس اتخاذ إجراء عاجل لحماية شعبها. ما الذي ننتظره حتى نحارب ضد هذا الاستبدال العظيم؟”
رئاسة قيس سعيد حادث تصادم مروري بالتصوير البطيء. بعد مرور عشر سنين غدت الديمقراطية التونسية بحق في خطر.
والسؤال الوحيد الباقي الآن هو ما إذا سيسمح التونسيون لأنفسهم بأن يصبحوا عبيداً، مرة أخرى، لحاكم مستبد يقبع داخل قصر قرطاج. لو وحدوا صفوفهم فثمة أمل. ولكنها لو كبيرة.