يحلو لكثير من السياسيين والعسكريين المصرين إذا ذكروا جيشهم هذه الأيام أن يصفوه بجيش مصر العظيم. ولحاجة في النفوس يصفه كثيرون بأنه: حصن مصر المنيع، وأنه ضامن بقاء الدولة ووحدتها ومؤسساتها واستقرارها، وبأنه الملاذ الأخير للشعب، وأنه، وأنه…
كلنا نتمنى أن يكون لمصر جيش عظيم حقا، ونتمنى ذلك لكل دولنا وشعوبنا.
لكن الأماني شيء والحقيقة شيء آخر. بإمكاننا أن نتمنى كل ما نشاء، لكن الحقيقة لا تكون دوما كما نشاء. الأماني دائما حلوة لذيذة، لكن الحقائق قد تكون مُرة أليمة.
"الجيش المصري العظيم": أمنية عزيزة، عذبة منعشة. لكن هل هذه هي الحقيقة؟ وما حقيقة هذه الحقيقة؟
إذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم" تَعدادُه الضخم، الذي يقارب نصف مليون ضابط وجندي، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، ضخامة ميزانيته التي أفقرت الشعب المصري وأثقلت كاهل الدولة بالديون، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، أنه عبارة عن مؤسسة مالية واقتصادية ضخمة، تتيح لقادته وكبراء ضباطه أن يكونوا من أغنى الأغنياء، وأن يتحكموا في اقتصاد البلاد وأقوات العباد، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، أنه أكبر قوة سياسية وأقوى حزب سياسي منظم ومنتظم في مصر، وأنه الأب الوصي على السياسة والسياسيين، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، أنه الجهة الوحيدة القادرة على قمع الشعب وقهره وتأديبه، بكل كفاءة وفعالية وتفوق، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، قدرته الفائقة على احتلال الساحات وقطع الطرقات وإغلاق القنوات، في بضع ساعات، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، قدراته وخبراته القتالية العالية في خوض حرب الشوارع، ضد المعارضين والمتظاهرين والمعتصمين، وتحقيق انتصارات ساحقة عليهم، فهذا صحيح.
وإذا كان المقصود بـ"جيش مصر العظيم"، أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويراقب حركة المرور والعبور للمواطنين، فهذا صحيح.
نعم هذه كلها حقائق حقيقية تشهد بعظمة الجيش المصري وتميزه وتفوقه الكاسح.
لكن إذا نظرنا إلى وظيفة الجيوش عبر العالم وعبر التاريخ، فسنجد أن الجيش المصري قد انسلخ منها واشتغل كلية بغيرها.
فأولا منذ حرب رمضان 1973، أي منذ أربعة عقود، يعيش الجيش المصري في بطالة عسكرية كاملة، إن لم نقل قاتلة.
والجيش المصري تشرف عليه وزارة تسمى وزارة الدفاع والتصنيع الحربي، ولم نسمع قط أن مصر حققت اكتفاءها ولا استقلالها في التصنيع الحربي، فضلا عن أن تقوم ببيع السلاح لغيرها أو إهدائه للمستضعفين من جيرانها وأشقائها. بل ما زال يعيش – في كل احتياجاته – تحت ذل المساعدات المشروطة والصدقات المسمومة.
قادة الجيش المصري يتباهون بأنه جيش وطني قومي تحرري، وأنهم امتداد للضباط الأحرار …، وهم لحد اليوم لا يملكون حرية التحرك والانتشار في سيناء، ولا يستطيعون تقديم أدنى مساعدة لأشقائهم الفلسطينيين المستهدَفين دوما بالغارات والاجتياحات الإسرائيلية.
والجيش المصري منذ سنين طويلة منشغل بإغلاق الأنفاق وتشديد الخناق وتشييد الحواجز والأسوار، فوق الأرض وتحتها، من أجل إحكام الحصار على قطاع غزة.
هذا هو الجيش المصري العظيم، الذي أعني به طبقته العليا المتحكمة في قيادته وتحريكه وتسكينه، ولا أعني أبدا السواد الأعظم من جنوده وضباطه. فهؤلاء ليس لهم حول ولا طول.