سكون يلف الكون حولى رغم شدة الصخب، أصوات مألوفة لدى لأناس هم فى الحقيقة أهلى، لكنى لست أدرى، لم هم بقلبى غرباء كالكون من حولى، هؤلاء كانوا أحبابنا أنا وأنت معا لطالما استقبلناهم معا وتزاورنا فيما بيننا، وكأنك كنت أنت الصلة بيننا، كنت صلتى بالعالم ونافذتى عليه، حتى فى تلك الفترات التى غبت فيها مرغما عنى حين غيبوك مرات خلف غياهب القضبان، كنت أستمد منك -وأنت المغيب- القدرة على الحركة الدءوبة والعطاء غير المحدود أو المشروط، أستمد من شموخك العظمة، ومن ثباتك الصبر، ومن ابتسامتك اليقين فى الفرج القريب.
أتحرك بين الجميع بقلبين وروحيين وجهدين، استحضر فى كل حركاتى وسكناتى وحتى أنفاسى إننى سأقتسم أجرها عند الله بينى وبينك، فتلك حركة بين المساجد لك وهذه زيارة فى الله لى ثم هناك مسيرة ومطاردة وغاز ورصاص تركت على الله أجرها ونذرتها فى الأجر بينى وبينك.
هناك كنا معا قضينا أياما هى عمر جديد لنا، مسار جديد، حياة مضافة فوق الحياة هناك؛ حيث رابعة الأحباب والأخوة والصفاء والصدق والصمود والثبات؛ حيث خيرة البشر وأطهرهم؛ حيث الأرض التى عشقت خطوات السائرين عليها، والساجدين فى ربوعها لتصير بدموع ساجديها من أطهر البقع وأشرفها، شرفت رابعة بمعتصميها، ورويت أرضها بأقدس دماء، كنا معا نصلى فجر يوم المجزرة الأولى لتأتينا بعد الصلاة أنباء التقتيل فى إخواننا أمام نادى الحرس الجمهورى، شاهدت الغضب المشوب بالحزن على وجهك هممت بالرحيل دونى فأقسمت عليك أن أكون رفيقتك إلى هناك كما تعاهدنا دوما، فاستبقيتنى بحنوك الذى لا يعرف حدودا أن أبقى إلى جانب وحيدينا فإن رزق أحدنا الشهادة فهو للآخر ذخرا عند رب العالمين ولسوف يكون له شفيعا عنده.
بقيت وحدى داعية الله أن يحفظك -رغم عشقى للشهادة- كنت هناك وأنا هنا المصابة المخنوقة بغاز الظالمين، ذهبت عونا لإخوانك هناك غير عابئ بدنيا، بينما أخذت قلبى معك يدور حيث تدور، وعدت سالما حزينا أن لم يمن عليك رب العالمين بشهادة منحة من عنده. فى المسيرات لم تفارق يدانا الأخرى، نحمل صغيرانا ونسير كل مرة تجاه الموت غير آبهين، فليأتنا وقتما يشاء طالما أننا معا، ثم تأتى مجزرة المنصة ثم نطارد فى مسيرات من رابعة وإليها نجرى معا، نهرب معا، نواجه الموت معا، نتضاحك ونفرح ونتعب، وتلهينا شقاوة طفلين عن مشقة المسير فى نهار صيام حار، ثم نجتمع مع الأحباب على إفطار فى شوارع تحتوينا وكأنها الجنان الوارفة لنكمل ليلنا قياما وركوعا نفترش أرض الخيمة وكأنها قصر منيف، ينام الصغار تملؤهم براءة الطفولة وعزيمة الرجال وصبر المبتلين المحتسبين، كبروا قبل الأوان، لكنهم مستقبلنا كما اتفقنا معا، هم غرس هذه الأمة، هم أملها، عرفوا ماذا تعنى الأمة، تألموا لألمها، الصغير ذو الخمس سنوات يهتف بسقوط حكم العسكر، والكبير الذى يسبقه بعامين أصبح تقييمه للكبار بقدر فهمهم لقضية الحرية، اهتممنا بغرسنا معا كى نلقى به الله فى شوارع رابعة، لم تكن لياليها ككل الليالى التى يعدها الناس بميزانهم المعهود، وإنما كانت كل ليلة بسنوات فى عمر تربيتهم، مرت لياليها لتضيف لنا ذكريات لا تنسى، ذكريات تنبنى عليها ليس حياة واحدة لجيل، بل سينبنى عليها مستقبل بلادنا لأجيال متتالية.
فى الليلة الأخيرة، تعاهدنا على الصمود معا، بعدما تواترت الأنباء عن مجزرة غد جديدة، كنا نحسبها كسابقاتها، تعاهدنا على الصمود معا، والثبات معا، وألا يسبق أحدنا صاحبه إلى الجنة، سألنا الله الشهادة معا.
جاء الغد ورحلت أنت، رحلت وحدك، فى يوم لم تكن فيه شمس رابعة كعهدها بنا، بل غابت بمجرد ولادتها، غابت خلف دخان الغاز، ودخان الحقد، ودخان الخيانة، غضبت رابعة، وغرقت فى أطهر دماء عرفتها الأرض فى زماننا، نعم تعاهدنا على ألا يسبق أحدنا الآخر، لكن رصاصات الغدر قنصتك أنت من دونى، بينما تسرع لإنقاذ المستشفى من حرق الشهداء بها، لتلحق بهم شهيدا، شهيد يحمى شهيدا، ويحمل شهيدا، وكأنها أرواح تعتلى إحداها الأخرى صعودا إلى السماء فى عليائها عند رب العالمين.
منذ الصباح وقد غابت الشمس، علمت أن خطبا ما سوف يحدث، فبينى وبين الشمس أحاديث لا يعلمها سوانا، أنا وهى، وقد صدق حديثها إلى.
غابت شمس رابعة ورحلت نهارا مع رحيلك عنا، تركتنى والوطن وحدى، وحين داهمتنى خيوط الليل وجدتها وهى تنسج حكايات جديدة بحروف ولغات جديدة لم أكن أحسب أننى سأتقنها يوما.
الوطن الذى يكابد، وقلبى الذى يكابد رغم ثباته وفرحته للحبيب الذى صدق فسبق.
حتى النهار كان يكابد كى تبقى شمسه الغائبة قليلا ببعض ضوء باهت لها، باك مع الأرض الباكية دما، كى يلملم المرهقون جراحهم النازفة ألما ووجعا، لكن خيوط الليل سرعان ما تتغلب عليه ليعلن نهاية نهار حياتى فيمتد العمر ليلا طويلا.
تركتنى والصغار وحدى، مع الأقارب الغرباء عنى، فقد صرت نصفا، نصف سبقه نصفه الآخر إلى حيث اتفقا.
ترى، هل تذكرنا هناك حيث الخلود مثلما نذكرك هنا منذ اليوم الأخير فى رابعة الخير، مثلما تذوب نفسى لهناك مع شمس الغروب منذ صباح اليوم الأخير فيها.
غامت الدنيا ولم تشرق منذ تلك اللحظة لتصير الحياة بعدك فراغا.
صرت وولدى نترقب لحظة العودة التى أعلمها مستحيلة، نترقب الخطوات التى نسمعها فى آذاننا وحدنا.
آثار خطواتك فى الشارع لا تمحوها كثرة الخطى، وصوتك القادم من بعيد ما زال فى الآذان يهتف بى خذى الولدين واذهبى إلى داخل الميدان مع الأخوات حتى أعود، كنت أعلم أنك لن تعود، قلت لى والله إنى لأشم رائحة الجنة، كانت خطواتك تتسع كلما اقتربت من مكان المستشفى حاملا جثة شهيد فوق كتفك المنهك من كثرة من حملتهم.
نقر أصابعك على باب بيتنا ما زال يجذب أسماع ولدينا فيهرعان إلى فتحه ظنا منهم أنك قادم من الجنة كى تأخذنا معك.
تلك رسالتى إليك أعاهدك فيها رغم الفراغ الذى خلفته لنا، أن لا أترك الطريق الذى تعاهدنا على السير به، فغرسك لم يكن غرسا عاديا، إنما كان غرسا مباركا رويته بالعزيز الذى لن يضيع أبدا عن الله سدى.
طريقنا سأكمله رغم مرارة الألم ولو كنت وحدى، فالحرية التى رويتها بالدم تستحق، وديننا الذى أعليت رايته دونه الرقاب… فكن قرير العين ونحن من خلفك فى طريقنا الموحش سائرون.