هذه هي الحلقة الأولى من السلسلة التي سنتناول مبادئ المعرفة السياسية في حلقات أسبوعية.
سنتناول الموضوعات بشكل أطول قليلا من مجرد نبذة سريعة، وأقل كثيرا من أن يصبح مصدراً وحيداً للمعرفة فيما يخص أياً من هذه الموضوعات.
و بعكس معظم السلاسل من هذه النوعية, ولأنني ملول بطبعي و لذلك على علم كامل بما يثير ملل القارئ ويجعله ينفض عن متابعة القراءة؛ فإننا سنتجاهل البداية التقليدية ولن نستعرض تعريفات السياسة وأهميتها ولماذا نهتم بدراستها – بديهي أنك تهتم نوعاً بالسياسة ما دمت تقرأ هذا المقال. وحتى سنقفز فوق سرد تاريخي لتطور الأفكار السياسية مؤقتاً، وسنبدأ بتعريفات لبعض المبادئ الهامة جداً في الحلقات الأولى.
————————————————————————————————————–
بالتأكيد سمعت كثيراً أن الدولة المصرية تفعل كذا و كذا, وكثيراً ما قرأت عناوين مثل (بريطانيا و فرنسا يتفقان على قوانين لتنظيم الهجرة) أو (ألمانيا تمنع استيراد الطماطم من هولندا)..أنت تفهم مباشرة أن وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا ممثلين عن دولتيهما توصلا للاتفاق, أو أن قرار المنع صدر عن وزير الزراعة الألماني نيابة عن دولة ألمانيا.
وقد تكون قرأت عن الاختلاف حول دور الدولة بالموازنة مع دور المجتمع. ولكن ما هي الدولة أصلا؟
و هل هي شئ جامد لا يتغير؟ يعني في حالة مصر مثلا, هل الدولة المصرية اليوم هي ذاتها من قرنين أو عشر قرون أو خمسون قرناً؟
هكذا تصبح مهمتنا الأولى هي وضع تعريف لمصطلح (دولة)، وبناءاً عليه نستطيع الإجابة على الأسئلة السابقة وغيرها كثير.
في البداية علينا أن نفهم أن الدولة هي طريقة واحدة من طرق مختلفة لتنظيم إدارة المجتمعات، وأنه رغم كونها التنظيم السائد اليوم فإنها بشكلها الحالي حديثة الصنع، وليس من المستبعد أن يحل نظام سياسي آخر محلها كما حلت هي نفسها محل أنظمة سياسية أخرى ظلت هي المهيمنة لقرون طويلة مثل الدولة المدينة.
فمثلاً وقتما أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية French National Assembly
(إعلان الحقوق و المواطنة) في أغسطس 1798 لتنظم شكل الدولة الفرنسية الجديد لم تكن الدولة الحديثة هي التنظيم السياسي المنتشر وقتها بل كانت تنظيمات أخرى مثل city-state أو الامبراطوريات empires والإمارات
Princedoms و القبائلtribes هي التنظيمات السياسية الأكثر انتشاراً وقتها.
و حتى اليوم ما زالت هناك تنظيمات سياسية مثل الاتحاد الأوروبي واتحاد روسيا الفيدرالية لا يمكن وصفها بالدولة. وهناك دول ذات طبيعة مختلفة، وخاصة مثل الفاتيكان، ولوكسمبورج، وسان مارينو، وموناكو.
كما أن الدول ليست هي اللاعب الوحيد على الساحة السياسية في العالم؛ فهناك منظمات تفوق بعض الدول قوة مثل بنك النقد الدولي أو شركات عملاقة مثل مايكروسوفت أو تنظيمات مثل القاعدة.
و لكن تظل الدولة هي التنظيم المهيمن على العالم اليوم، ولذلك فمن الضروري دراستها بتدقيق.
وبما أن الدولة هي طريقة لتنظيم إدارة المجتمعات سياسياً فإن المجتمع أسبق من الدولة, وعامة يعرف المجتمع بأنه تجمع بشري يجمعه التعاون والترابط الاختياري.
ومر مصطلح (الدولة) بمراحل متعددة من التعريفات فقديماً قال الفيلسوف الإغريقي (أرسطو): “أن كل دولة مجتمع، وأن كل مجتمع يتألف ابتغاء مصلحة إذ الجميع يجدون في كل شيء إلى ما يبدو لهم خيرا من الواضح. إنّ كل المجتمعات ترمى إلى خير، وإن أخطرها شأنا والحاوي كل ما دونه يسعى إلى أفضل الخيرات وهذا المجتمع هو المسمى دولة”.
فأرسطو اعتبر الدولة هي الحالة الطبيعية للمجتمع البشري، ولكن تعريفه عام وغير محدد، ولكنه يتفق مع شكل التنظيمات السياسية في العالم الهلينستي في عصر أرسطو، ولكنه يختلف عما نحن عليه اليوم.
أكثر تعريفات الدولة قبولا في العصر الحديث هو تعريف عالم الاجتماع الألماني Max Weber في كتابه "السياسة كمهنة" “Politics as a vocation”.
“الدولة هي التجمع البشري الذي يستطيع أن يدعي احتكار الاستخدام الشرعي للقوة على إقليم محدد”.
و يجمع تعريف (فيبر) عدة مصطلحات تحتاج للشرح كمكونات وعناصر لتكوين الدولة:
1. الإقليم Territory
فالدولة يجب أن تفرض سيطرتها على إقليم جغرافي محدد, و يمكن من هنا معرفة الفرق بين الدولة والأمة.
فالأمة هي مجموعة من البشر الذين يشتركون في هوية تجمعهم مثل الدين أو اللغة أو العرق، و لا يجمعهم بالضرورة نفس الإقليم الجغرافي أو مكان واحد مثلما هو الحال في الدولة.
و مع القرن التاسع عشر ظهر مفهموم الدولة – الأمة state-nation ؛ حيث أصبحت الأمة مرتبطة بالدولة مع اختلاف أسبقية أي منهما ففي حالة فرنسا مثلا تكونت الأمة تبعاً للدولة عكس حالة ألمانيا التي خلقت فيها الأمة دولة لها.
هذا المفهوم يثير العديد من المشاكل اليوم, فالدول في أفريقيا و أسيا في أغلبها لم تحدد هي حدود إقليمها الجغرافي بل تم تحديده لها من قوى أكبر في أوقات سابقة وبصورة تتعارض في كثير من الأوقات مع شعوب تتقاسمها الدول أو شعوب تترك بلا دولة تجمعها، ومن هنا تنشأ حروب وخلافات حدودية وحروب أهلية في دول كثيرة في إفريقيا وأسيا.
2. الشعب People
وهم مجموعة الناس الذين يسكنون إقليماً محدداً، ويتشكل لهم كياناً جماعياً collective entity ناتج عن وعيهم الجمعي المشترك common consciousness وهويتهم identity.
3. السيادة Sovereignty
وهو مصطلح يعني القوة المطلقة, يعني أن الدولة لديها كامل الحرية والاستقلالية في تنفيذ ما تراه من أفعال.
وتنقسم السيادة لنوعين: سيادة داخلية وسيادة خارجية.
وعادة لا تملك دولة ما سيادة بصورة مطلقة. فداخلياً تربط معظم الدول الديمقراطية سيادتها داخلياً بالدساتير التي تحدد حدود سيادة الدولة وتوازنها مع الحريات والمساواة في المجتمع، وبذلك لا تتحقق السيادة المطلقة داخلياً إلا في حالة الدول ذات الأنظمة المستبدة.
وخارجيًا ترتبط سيادة الدولة بباقي اللاعبين الدوليين و قوتهم و تشابك مصالحهم. فالدول الأقوى تنتقص من سيادة الدول الأضعف في صور مختلف قد تبدأ باتفاقيات غير متوزانة وقد تصل لحد احتلال أراضي تابعة للدولة الأضعف.
سيادة الدولة ترتبط أيضاً بوجود لاعبين آخرين غير الدول على الساحة, فمثلا سيادة إيطاليا غير كاملة على مناطق في الجنوب بسبب سيطرة شبة دولتية للمافيا على تلك المناطق. كما أن دولا كثيرة تضطر للرضوخ لتعليمات لاعب قوي آخر هو بنك النقد الدولي أو شركات متعددة الجنسيات مثل شركات النفط العملاقة.
4. القوة Force
تلجأ كل الدول لاستخدام القوة لتنظيم الحياة العامة. لا فرق هنا بين الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية في أهمية استخدام القوة فيما يعرف بالحكم بالإكراه rule by coercion الاختلاف يكون في طريقة استخدامها ومدى قبول الشعب لها.
فالدول الديمقراطية تستخدم القوة لمعاقبة من يخالف قوانين المرور مثلا عن طريق إكراهه على دفع غرامة, أو حبس من تثبت عليه تهمة السرقة مثلا.
بينما الدول الديكتاتورية تستخدم القوة لإسكات أي معارضة لها أو لتحقيق مصالح شخصية للفئة الحاكمة.
و بينما يعرف عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل (دوجلاس نورث) Douglas North الدولة بأنها منظمة لديها تفوق نسبي في استخدام العنف فوق إقليم جغرافي تتحدد حدوده بقدرتها على“فرض الضرائب على رعاياها،
متجاهلا مبدأ احتكار استخدام القوة في تعريف ماكس فيبر الذي يقول بأن الدولة “تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة”.
مما يعني أن احتكار الدولة للقوة عند فيبر مرتبط بشكل مباشر بشرعية الدولة.
5. الشرعية Legitimacy
ما الذي يجعل الدولة تحتكر استخدام العنف أو القوة وحدها, ما الفارق بين استخدام الدول الديمقراطية للعنف واستخدام الدول الديكتاتورية له؟
ما الذي يجعل الدولة في إيطاليا تحتكر العنف و ليس المافيا مثلا؟
إنه القبول الشعبي بوجود الدولة كراع للمصالح المشتركة أولا، ثم بقبولهم بقدر من الإكراه أو العنف لتنظيم الحياة العامة وهو ما يسمى بالشرعية.
فسيادة الدولة فوق رعاياها لا تتحدد قانونياً بل يجب أن تكون شرعية, مقبولة من شعبها.
و قد تنسحب الشرعية عن الدولة لصالح جهات أخرى داخلية مثل اعتقاد العديد من المفكرين بشرعية استخدام بعض الحركات للقوة مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي أو حركة المقاومة الإسلامية حماس، وذلك في مواجهة قمع الدولة ذاتها أو الاحتلال الخارجي للدولة كحالة مقاومة المجاهدين الإسلاميين للاحتلال السوفيتي لأفغانستان في ثمانينات القرن العشرين.
إذاً الدولة هي تنظيم سياسي لحياة مجموعة من البشر يعيشون فوق إقليم جغرافي محدد, وهي مسئولة عن سن القوانين و تطبيقها, الحفاظ على الحريات المجتمعية والفردية وضمان المساواة في المجتمع, تحسين الاقتصاد وإيجاد فرص العمل للمواطنين, تنظيم التعليم و الصحة و المواصلات وغيرها من شئون الحياة العامة، وتستخدم في ذلك القوة التي يحدد أبعادها القانون، وتمنحها الشرعية صلاحية فرضها على المواطنين.
وتختلف الدول في أولويات اهتماماتها ومدى اهتمامها بالموازنة بين الحريات والمساوة وفرض النظام، وفي مدى مشاركة المواطنين في رسم سياسات الدولة.
—————————————————————————————————————
في الحلقة القادمة سنتعرف أكثر عن الدولة وما الحاجة لها؟ وما هو الفارق بين الدولة والنظام والحكومة؟ وكيف تطورت التنظيمات السياسية لتصل للوضع الحالي.