تشهد بريطانيا منذ أسابيع قليلة معركة سياسية، ليست صاخبة بالضرورة، ولكنها بالغة الدلالة، على أية حال. هي غير صاخبة، ولا لوحظت خارج بريطانيا، لأنها لا تدور بين الحزبين الرئيسيين، المحافظون والعمال، ولا تتعلق بمستقبل رئاسة الوزراء؛ وثمة شك كبير حتى حول ما أن كانت ستترك تأثيراً كبيراً على الانتخابات البرلمانية القادمة. ولكنها بالرغم من ذلك كله تحمل دلالات بالغة حول طبيعة الدولة الحديثة، ورؤية طبقتها الحاكمة لنفسها باعتبارها مؤسسة، أو منتدى مغلقاً، يصعب، بل ربما يستحيل، الالتحاق به وكسب عضويته، بدون الاستجابة لشروطه وتبني خطابه والقبول بسقفه المحدد في لحظة تاريخية ما.
تتعلق المعركة بما تعتبره الأحزاب الثلاثة الرئيسية للدولة البريطانية تهديداً وشيكاً يمثله حزب صغير، حديث النشأة، هو حزب استقلال المملكة المتحدة، الذي يقوده منذ 2006، بانقطاع قصير، نايجل فاراج. ولد حزب استقلال المملكة المتحدة في 1993 من تحت عباءة الرابطة ضد الفيدرالية، التي كانت أطلقت قبل ذلك بعامين وجمعت نشطين وشخصيات سياسية من خلفيات حزبية مختلفة.
برزت الرابطة كرد فعل على معاهدة ماسترخت الأوروبية، التي وقعت في العام نفسه، ونقلت النظام الأوروبي من السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي، واعتبرها كثيرون في بريطانيا مقدمة لتحويل أوروبا إلى دولة فيدرالية. الذين شكلوا الرابطة، والحزب بعد ذلك، حملوا راية القومية البريطانية (بمعناها الواسع: المملكة المتحدة، وليس القومي العرقي)، وجعلوا العمل من أجل إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هدفهم الرئيسي. في دستوره، أعلن الحزب نفسه ديمقراطيا، ليبراليتياً، أي تحررياً، وجعل الهجوم على قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، المشكلة من أعضاء غير منتخبين، تسميهم الدول الأعضاء، جوهر خطابه. وقف حزب استقلال المملكة المتحدة ضد كل خطوة لتعزيز الوحدة الأوروبية اتخذت حتى الآن، سيما تلك المتعلقة بمجالات الاقتصاد والمال والهجرة وحرية انتقال المواطنين بين الدول الأعضاء، وعمل على إثارة خوف الشعب البريطاني من السيطرة الأوروبية وعواقب البقاء في إطار الوحدة الأوروبية.
ما عدا الحزب الليبرالي، الذي يعتبر الحزب البريطاني الأكثر ترحيباً بالارتباط بأوروبا، فليس ثمة شك أن هناك أصواتاً داخل حزبي العمال والمحافظين لا تختلف كثيراً في موقفها من أوروبا عن حزب استقلال المملكة المتحدة. والواضح أن التيار المناهض لمزيد من الاندماج الأوروبي تيار عابر للأحزاب، ويتمتع بجذور شعبية لا يستهان بها. عوامل التاريخ وجغرافيا الجزيرة البريطانية، التي وضعتها على حافة القارة الأطلسية، وجعلت منها حلقة وصل بين القارة والولايات المتحدة، رسبت تقاليد وقيماً بالغة الخصوصية، وخشية من الابتلاع في قارة واسعة، تقودها ألمانيا.
ولم يكن التحاق بريطانيا بالسوق المشتركة في منتصف السبعينات، وتوقيعها على معاهدة ماسترخت في مطلع التسعينات، تعبيراً عن قناعات عميقة، بل تلبية لضرورات اقتصادية وسياسية بحتة. وقد اختارت بريطانيا طوال العقدين الماضيين الإعفاء من عدد من الاتفاقيات الرئيسية في مسيرة الوحدة الأوروبية، مثل اتفاقية شنغن الخاصة برفع الحدود بين الدول الأعضاء، أو الخطوة الأهم المتعلقة بإطلاق العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، والالتحاق بالبنك المركزي الأوروبي.
ما يمكن قوله أنه وبالرغم من المماحكات السياسية، لا يكاد يوجد فارق كبير بين سياسات حكومات العمال والمحافظين، أو حتى حكومة الإئتلاف الحالية، المحافظة الليبرالية، تجاه الملف الأوروبي. بمعنى أن هناك شبه إجماع سياسي بين الأحزاب الرئيسية الثلاثة حول المحافظة على عضوية بريطانيا في الوحدة الأوروبية، والمحافظة على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي المالي البريطاني في الآن نفسه، رجل في مجلس الوحدة الأوروبية ورجل خارجها، إن صح التعبير.
مشكلة حزب استقلال المملكة المتحدة أنه يرفض هذا الإجماع، ويسعى إلى تحرر بريطانيا من أوروبا كلية.
حتى وقت قريب، لم يكن الحزب يشكل وزناً انتخابياً يعتد به، أو يستدعي الشعور بالخطر. في الانتخابات البرلمانية السابقة، 2010، التي جاءت بالحكومة الإئتلافية الحالية، لم يحصل حزب استقلال المملكة المتحدة على أكثر من 3 بالمائة من الأصوات، موزعة على أنحاء البلاد. ولم يستطع بالتالي الفوز ولو بمقعد واحد في مجلس العموم البريطاني. ولكن أداء نايجل فاراج وحزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي قبل ذلك بعام كانت أفضل بكثير، حيث حصل على 16 بالمائة من أصوات الناخبين، واحتل بالتالي 13 مقعداً من حصة بريطانيا في البرلمان الأوروبي البالغة 73 مقعداً. بمعنى أن الحزب حصد، في انتخابات أوروبية، أصوات الناخبين المشككين بوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في انسجام متوقع مع برنامج الحزب. على المستوى المحلي، لا يتمتع الحزب سوى بتسعة مقاعد، موزعة على عدة مجالس محلية، وتكاد تكون بلا أي تأثير يذكر.
في الثاني والعشرين من هذا الشهر، ايار/مايو، يذهب البريطانيون إلى صناديق الاقتراع من جديد، لاختيار حصتهم من أعضاء البرلمان الأوروبي، وللتجديد النصفي للمجالس المحلية. ولاقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، تعتبر الانتخابات الأوروبية والمحلية مؤشراً هاماً على شعبية الأحزاب ووزنها الانتخابي. ولكن هذا ليس وقتاً جيداً للاتحاد الأوروبي وأنصاره، سيما وأغلب الدول الأوروبية لم تخرج بعد من كساد 2008 الطويل، وقد راقب البريطانيون بذعر كبير في السنوات القليلة الماضية كيف أن دولاً في حزام اليورو، مثل اليونان والبرتغال وأسبانيا وإيرلندا، وصلت إلى حافة الانهيار، واضطرت إلى ابتلاع مرارة إجراءات بالغة القسوة، فرضها الاتحاد الأوروبي كشرط لمساعدتها على النهوض من جديد.
تقدر بعض التوقعات بأن حزب استقلال المملكة المتحدة قد يرفع في 22 ايار/مايو المقبل حصته في البرلمان الأوروبي من 13 إلى 20، ويحصل بالتالي على ما يقارب 25 بالمائة من الأصوات. كما قد يرفع حصته في المجالس المحلية من 9 إلى 50؛ بل وربما يقترب من 100. مثل هذه النتائج، إن تحققت بالفعل، تفرض الحزب فرضاً على المؤسسة الحاكمة، حتى قبل أن يفوز ولو بمقعد واحد في مجلس العموم (البرلمان البريطاني)؛ بل وربما تساعده في الحصول على عدد قليل من مقاعد البرلمان في الانتخابات العامة المقبلة. وهذا ما يثير ذعر الأحزاب الثلاثة الرئيسة، ليس بالضرورة لأن حزب استقلال المملكة المتحدة مجرد حزب حديث الولادة، ولكن أصلاً لأنه لا ينتمي لمؤسسة الحكم وإجماعها السياسي. ولأن الخطر يهدد المؤسسة وليس حزباً واحداً بعينه، أعلنت النائبة البرلمانية عن حزب المحافظين، باربرا روتش، يوم الإثنين 28 نيسان/ابريل الماضي، عن تشكيل مجموعة عمل برلمانية غير حزبية، تضم أعضاءً من الأحزب المختلفة، لمواجهة حزب استقلال المملكة المتحدة.
مركز الحملة التي ستتعهدها مجموعة العمل المشتركة هو التوجه العنصري لحزب استقلال المملكة الممتحدة. يستنكر قادة الحزب وأعضاؤه أي اتهام لهم بالعنصرية، ولكن الحقيقة أن بعض نشراته واعلاناته الدعائيه تستبطن توجهات عنصرية.
وفي مقابلة سابقة مع صحيفة ‘الغارديان’، أشار نايجل فارج إلى ما أسماه ‘خوف البريطانيين عند انتقال مهاجرين رومانيين للسكن في جوارهم’. وهذا ما جعل بربارة روتش، محقة، تعلق، في اقتناصها للحظة سقوط فاراج، بأن اللغة العنصرية ضد الرومانيين لا تقل، ولا تختلف، عن التمييز العنصري ضد السود أو الآسيويين. ولكن السيدة روتش تعرف أن في حزبها، حزب المحافظين، من الأعضاء ما لا يقل عنصرية عن حزب استقلال المملكة المتحدة. السؤال هنا هو ما إن كانت أحزاب الطبقة الحاكمة تستنفر مدفوعة بالعنصرية المستبطنة لاستقلال الممملكة المتحدة، أو بالحفاظ على طهر وتماسك مؤسسة الحكم؟
في الاجابة على هذا السؤال تقع واحدة من أبرز سمات الدولة الحديثة: ليس لوافد غريب على الطبقة الحاكمة أن يعترف به عضواً في مؤسسة الحكم وشريكاً محتملاً، بدون أن يخضع لتقاليدها وإجماعها، أو ينجح أولاً في الإطاحة بالطبقة والمؤسسة معاً.