أقل من شهر يفصل ما بين تصريحات رئيس الوزراء العنترية بأن "مصر لن تركع" للضغوط الأمريكية فى قضية منظمات المجتمع المدنى وهبوط طائرة خاصة فى مطار القاهرة لنقل جميع الأجانب المتهمين فى هذه القضية. فى خلال هذا الشهر ظهرت الوزيرة المؤبدة فى المنصب، فايزة أبوالنجا ترفض الضعوط الأمريكية، والمجلس العسكرى يعلن أن الموضوع برمته فى يد القضاء المصرى "المستقل"، والداعية محمد حسان يبدأ حملة تبرعات للاستغناء عن المعونة الأمريكية للجيش المصرى.
وفى نفس الليلة التى تنحت فيها هيئة المحكمة التى تنظر هذة القضية بسبب التدخل فى عملها، خرج علينا رئيس القضاء العسكرى ليعلن عن تحقيقات تجرى مع ثلاثة من الاشتراكيين الثوريين بسبب نشاطهم السياسي، وإمكانية تحريك قضية ضد النائب زياد العليمى بسبب تصريحاته.
لم تكن هذه هى المرة الأولى فى خلال العام الماضى التى يستخدم فيها المجلس العسكرى اللعب على الشعور الوطنى للمصريين ليمرر بها أفعاله الشائنة. ففى شهر يونيو الماضى خرج علينا هذا المجلس وآلة إعلامه ليقيموا الدنيا حول القبض على جاسوس أمريكي-إسرائيلى على علاقة بنشطاء مصريين. وأتحفونا بتصريحات حول الخطر على الأمن القومى المصرى، وأن الموضوع فى يد القضاء ولا يمكن التفريط فى محاكمة المتورطين. ثم ما لبث أن جاء مبعوث أمريكى فى شهر أكتوبر واصطحب معه الجاسوس المزعوم معززا مكرما إلى بلاده دون أن يقول القضاء كلمته.
فى الواقعتين كان استنفار الشعور الوطنى مرتبطا بوقوع المجلس العسكرى تحت ضغط، وإحساسه بخطر فقدان المصدقية داخلياً، فيلجأ إلى استخدام كرت الخطر الأجنبى بنفس الطريقة التى لعب بها نظام مبارك على فكرة أن الثورة مخطط أجنبى مدعوم من إيران وحماس.
فقضية الجاسوس تزامنت مع تكشف ممارسات العسكر من تعذيب المواطنين فى السجون الحربية ومحاكمتهم أمام القضاء العسكرى، ومع التملل العام من عدم محاكمة مبارك ورجاله حتى تلك اللحظة.
وجاء التصعيد فى قضية المنظمات الأجنبية ليتواكب مع ازدياد دعاوى تسليم السلطة والعصيان المدنى ضد حكم العسكر، وعلى خلفية مذبحة بورسعيد. فى الحالتين استخدم العسكر وأذنابهم فى الإعلام وبعض السياسيين مفهوم الاستقلال الوطنى ليحافظوا على مصالحهم فى الحكم وليس مصالح مصر وشعبها. وهذا هو الحال دائماً تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية والتى تختذل الوطن فى مصالح نظام الحكم ومن هم على رأسه.
هذا لا ينفى ان مصر منذ عقود لم تعد تملك إرادتها وأن جل قرارتها السياسية والاقتصادية يتخذ خارج مؤسساتها المنتخبة وغير المنتخبة ودون الرجوع لشعبها. بدءاً من سياسات تحرير الاقتصاد لصالح الشركات العالمية الكبرى وحتى قرارات الحرب (المشاركة فى غزو العراق) وليس انتهاء بحصار غزة وعدم دعم الثورات العربية.
وبالإضافة إلى أن استقلال الإرادة الوطنية هو هدف فى حد ذاته لكل مصرى وطنى فإن مثل هذا الاستقلال هو ضرورة لتحقيق مطالب الثورة من سياسات اقتصادية تحقق العدالة الاجتماعية ودولة جديدة تضمن حرية وكرامة المواطنين. ولكن من المؤكد والثابت الآن أن استقلال هذه الإرادة، وخلق مصر لا تركع لأحد لا يمكن أن يحدث فى ظل حكم عسكري.
فمصر التى لا تركع تحتاج إلى قضاء مستقل بحق وليس القضاء الذى عين مبارك كل رؤوسه، والذى لم يدن واحدا من قتلة المصريين على مدى عام وشارك فى الإشراف على انتخابات مزورة على مدى عقود ويتلاعب به العسكر كيفما شاءوا. مصر التى لا تركع تنفرد فيها المؤسسات المنتخبة من الشعب فى إصدار القرارات السياسية والاقتصادية بدءاً من المعونة الامريكية وانتهاء بالإشراف على ميزانية الجيش وعمل جهاز المخابرات.
مصر التى لا تركع تكون سياستها الخارجية مبنية على مصالح الشعب وليس على رغبات حكامه ممن يتقاضون العمولات واجهزة أمنها تعمل لأمن هذا الشعب وليس تبعاً لتوجيهات ومصالح عمر سليمان.
وعلى السياسيين والإعلاميين ممن يطنطنون بأن المجلس العسكرى هو حامى مصر وأنه المؤسسة الوطنية الوحيدة أن يدركوا مدى العار الذى جلبه هذا المجلس لمصر بدءاً من سحل المتظاهرين وتعرية المصريات وانتهاء بكسر القضاء وهبوط الطائرة الحربية الأمريكية فى مطار القاهرة منذ يومين.
سوف يستمر العسكر فى محاولة إلهائنا عن معركة بناء مصر التى لا تركع بكل المتطلبات السابقة ويستخدمون فى ذلك اذنابهم. سيصورن أن العدو القادم هو نشطاء وطنيون اسمهم الاشتراكيون الثوريون –أو فصيل وطنى آخر- يسعون إلى بناء دولة جديدة تقوم على العدل والحرية. وسوف يصورون أن حماية هذا الوطن مقرونة بحصانة مخلة للمؤسسة العسكرية وامتلاكها لثروات ومقدرات هذا الشعب. وأن أجهزة الأمن بدءاً من وزارة الداخلية وانتهاء بجهاز المخابرات الحربية هى أجهزة وطنية لم يمسسها عطب الفساد خلال ثلاثين عاماً.
سيستمرون فى محاولة تركيعنا بغياب الأمن ولقمة العيش وخلق أعداء وهميين من الشعب نفسه حتى ننسى أنهم هم من يركعون مصر، ونحن من نسعى لاستنهاضها.
عسكر كاذبون، راكعون، على أمن مصر غير مؤتمنين.