الديمقراطية نظام حكم له مبادئ وله إجراءات، وحين يتفاعلان ينتجان عملية. إذن هى عملية مركبة(process) فيها مبادئ(principles) ولها إجراءات(procedures). المبادئ مثل الحرية والمساواة والعدالة والحقوق، والإجراءات مثل وجود نظام حزبى، والانتخابات بما فيها من دعاية وترشح وتصويت. وهو ما ينتج عملية مركبة تقوم على ممارسات منضبطة بالمبادئ ومرتبطة بالإجراءات. الإجراءات هى الجانب الصلب والمشاهد من العملية الديمقراطية(hardware) أما المبادئ فهى الروح التى لا نراها ولكن نرى مظاهرها، ونعانى من غيابها وهى التى تجعل للإجراءات قيمة(software).
وتبين للبشرية أنه لا بد من النص على هذه المبادئ والإجراءات والعملية برمتها فى وثيقة مكتوبة أو أكثر لضمان سلامة واستدامة هذه العملية. وهو ما جعلت كل دول العالم ما عدا ثمانى دول لديها وثيقة واحدة مكتوبة تضع فيها هذه الأمور ألا وهى الدستور.
ولأن الديمقراطية اختراع إنسانى عبقرى يهدف إلى قمع القمع ولجم جماح الاستبداد عن طريق تعدد مراكز صنع القرار والرقابة المتبادلة بين مؤسساتها فضلا عن حق المحكوم فى أن يكون حاكما فى يوم الانتخابات وواجب الحاكم لأن يقبل بحكمه إما بالعزل أو بالبقاء، فقد أخذت به معظم دول العالم. ومع ذلك تظل الدول العربية إلى أن ينجح التحول الديمقراطى مسئولة عن أكثر من 50 بالمائة من الدول غير الديمقراطية مع أن الدول العربية لا تشكل إلا نحو 10 بالمائة من دول العالم (22 دولة عربية من 200 دولة فى العالم). وقد وقفت النخب العربية الحاكمة ومعها قطاع من المثقفين العرب موقف الريبة الشديدة من الديمقراطية محتجين بما لها من آثار سلبية محتملة على الاستقرار والتنمية. والسؤال المطروح هل لمخاوفهم أسس منطقية من الواقع؟ وكيف استطاعت عمليات الهندسية المؤسسية (أى حسن تصميم المؤسسات السياسية) وحسن صياغة الدساتير أن تحل الكثير من المشكلات وأن تبدد الكثير من المخاوف.
وتؤيد بعض المشاهدات منطق التخوف من الديمقراطية ولنأخذ مثالا معيشا مما تعانية دولة الكويت، وهى الدولة الأكثر ديمقراطية فى دول الخليج، من عدم استقرار سياسى نال من خطط التنمية والبرامج الخدمية للدولة فقد حل البرلمان أربع مرات فى آخر ست سنوات بما يعنى عدم استكمال أى من المجالس الثلاثة لولايته، وهى أربع سنوات للدورة البرلمانية العادية.
وربما نتذكر أن الرئيس السابق مبارك قد رفض التخلى عن رئاسة الحزب الوطنى لأنه من أنصار وجود حزب قوى يمنع نمط الحكومات الائتلافية والضعيفة التى كانت موجودة قبل الثورة وعليه فمصر بحاجة لنوع من ديمقراطية «الجرعة جرعة» بما لا ينال من استقرار الوطن وأمنه.
وهى معضلة حقيقية يواجهها من يريد نظاما فيه حكومة فعالة وحازمة(authoritative) دون أن تكون تسلطية أو استبدادية(authoritarian).
إذن هل الديمقراطية لا تصلح لمجتمعاتنا العربية؟ الإجابة المريحة، لا تصلح. لكن الإجابة الصحيحة هى أنها تصلح إذا ما ارتبطت هذه الديمقراطية بهندسة مؤسسية ودستورية تستوعب طبيعة هذه المجتمعات اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. وعليه، فهذه الجملة الأخيرة تنقلنا من التساؤل عن مدى ملائمة الديمقراطية لمجتمعاتنا إلى تساؤل أكثر عمقا عن أى ترتيبات مؤسسية ودستورية تصلح لأى من المجتمعات العربية. ويكفى الإشارة إلى تحديات أربعة تواجهها بعض مجتمعاتنا العربية التى شرعت فى التحول الديمقراطى حديثا، ويمكن أن تتحول معها الديمقراطية إلى عامل عدم استقرار بل ربما تكون نتائجها أفدح من عواقب غيابها.
فأولا: هناك نموذج الدولة المنقسمة قوميا حيث تعرف بعض الدول العربية درجة عالية من التوازى فى أشكال الانقسام والتى تبدو وكأنها دولة واحدة بالمعنى الدبلوماسى والقانونى لكن يعيش فيها عدة مجتمعات بالمعنى الثقافى والاجتماعى. ولنأخذ السودان مثالا. ومع كثير من التبسيط لخريطة سكانية معقدة، فإنه يغلب على قاطنى شمال السودان أنهم يتحدثون العربية ويدينون بالإسلام وفى وضع اقتصادى أفضل نسبيا مقارنة بأهل الجنوب وظلوا القابضين على مقاعد السلطة فى مواجهة الجنوبيين الذين يغلب عليهم أنهم لا يتحدثون العربية ويدينون بخليط من المسيحية و«كريم المعتقدات الأفريقية» كما ينص الدستور السودانى، وهم فى وضع اقتصادى أسوأ كثيرا من أهل الشمال، وظلوا فى معظم تاريخ السودان الحديث بعيدين عن مراكز صنع القرار. وهذا ما يعنى ضمنا أن السودان أقرب إلى دولة واحدة لكن يقطنها أكثر من قومية. وعليه فإن أى تطبيق ديمقراطى لا بد أن يرتبط بحذر شديد حتى لا تؤدى الديمقراطية إلى تعميق هذه الانقسامات الأولية بما يثير النعرات العرقية والقبلية انتهاء بالحروب الأهلية.
ومن هنا اخترع التنظير السياسى فكرة الفيدرالية المرنة والتى قال بها عبقرى الفلسفة السياسية الأمريكى والذى أصبح الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس ماديسون حتى يمكن الجمع بين ما هو «مشترك ومتوافق عليه من ناحية، وما هو خاص ومحلى من ناحية أخرى.» ومرونة الفيدرالية تقتضى توسيع صلاحيات المركز بما يضمن تخفيف حدة الانقسامات ويقتضى درجة عالية من تمثيل الولايات فى الحكومة الفيدرالية والتفاوض بينهما حتى لا يسود الاعتقاد بأن مركز الدولة أداة فى يد فئة أو مجموعة ضد بقية فئات المجتمع.
وبما أننا تحكمنا نخب لا تقرأ، وإن قرأت فهى عادة لا تفهم، ولو فهمت، فهى عادة تفهم خطأ، شهدنا أمامنا انقسام السودان، وهو ما نتمنى ألا نراه يتكرر فى دول أخرى.
كما يعول التنظير السياسى على المهارات التوافقية والتوفيقية للرموز الوطنية المشتركة مثل الزعامات المعروفة برصيدها السياسى الكبير عند جميع مواطنى الدولة بغض النظر عن انقساماتهم الأولية (مثل غاندى ونهرو فى الهند) وكذلك يعول على أهمية وجود حزب وطنى فوق عرقى وعابر للأيديولوجيات بما يمثل فى مرحلة معينة المصالح والتطلعات المشتركة للجميع مثل دور حزب المؤتمر الهندى والذى يستخدم كأهم سبب لتفسير نجاح مشروع المواطنة والديمقراطية الهندية (رغما عن التحديات الكثيرة) فى مقابل إخفاقات التجربة فى باكستان ونيجيريا وبنجلاديش، كما ينظر إلى دور حزب العمل الإسرائيلى بنفس المنطق خلال أول ثلاثين سنة من عمر الدولة العبرية.
ثانيا: هناك نموذج الدولة المنقسمة أيديولوجيا: ومن هنا ابتكر العقل السياسى فكرة وجود مجلسين تشريعيين يكون تمثيل أحدهما مختلفا نوعيا عن تمثيل المجلس الآخر بما يقلل من فرص سيطرة تيار واحد على المجلسين لفترة طويلة. كما يؤدى وجود مجلس قضاء أعلى أو محكمة دستورية مستقلة وذات مصداقية تفصل فى أسباب النزاع إلى وجود حكم يتسم بالحياد تحمل الميزان بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو المجلس الذى لو كان موجودا فى النظام الأساسى للسلطة الفلسطينية لكان قد فصل فى دستورية القرارات التى اتخذتها الأغلبية البرلمانية لحماس وقرارات الرئيس الفلسطينى عباس. وبالمناسبة تقدم دول جنوب أفريقيا وكوستاريكا وأوروجواى وشيلى نماذج تدرس بعناية للهندسة الدستورية الفعالة فى مجتمعات كان ينظر لها تقليديا على أنها غير معدة للتحول الديمقراطى.
ثالثا: هناك الدولة المهددة ديمقراطيا: أى التى تعانى من وجود جماعات تعمل على اختطاف الديمقراطية باستخدامها مرة واحدة ثم التخلص منها بعد الوصول إلى السلطة ومن هنا ابتكر التنظير السياسى فكرة استبعاد القوى السياسية التى يمكن أن تستخدم أساليب ديمقراطية للقضاء على الديمقراطية بحكم الدستور بل وفى مواد فوق دستورية أى لا يمكن الاتفاق على مخالفتها ولا يمكن تعديلها إلا بأغلبية استثنائية ومن ذلك التجربة الألمانية التى تضع مادة فى الدستور تمنع نشأة الأحزاب أو تكوين الجماعات التى لا تحترم الدستور. وعليه تم حظر الكثير من الجماعات المتطرفة يمينا (مثل الأحزاب النازية) أو يسارا (مثل الجماعات الشيوعية(.
رابعا: هناك نموذج الدولة الهشة بنيويا: حيث تكون سلطة رأس الدولة وشرعية نظام الحكم ووحدة المجتمع شديدة الترابط على نحو يجعل المساس بصلاحيات رئيس الدولة وإضعاف مركزه السياسى سببا كافيا للنيل من شرعية نظام الحكم برمته وبالتالى تهديد لوحدة المجتمع التى ستتحول إلى ساحة للصراعات السياسية والانفجار من الداخل؛ فالانفتاح السياسى المحدود الذى قاده جربتشوف فى الاتحاد السوفيتى أدى إلى انهيار تام لوحدة الدولة. وكذا فإن غزو العراق لم يعن فقط التخلص من رئيس الدولة، وإنما تدمير شرعية حزب البعث الحاكم ووضع ووحدة الدولة العراقية موضع تساؤل؛ وعليه فإن النظرية الديمقراطية، جعلت من بناء دولة المواطنة واحترام حكم القانون وقيم المواطنة الجامعة بكل تجرد ووطنية التعليم وبعده عن الصراعات الأيديولوجية والخطاب الإعلامى شرطا ضروريا ومتلازما للتحول الديمقراطى، فالتحول الديمقراطى بدون ديمقراطيين فى الحكم والمعارضة وبين قادة الرأى العام فى المجتمع يعنى الفوضى فى أعقاب القمع.
إذن كل كلمة بل وكل جملة فى الدساتير الجديدة فى دول ما بعد الثورات العربية تحتاج عناية خاصة جدا فهى، أى الدساتير، إما تكون من عوامل التقدم والنهضة أو من أسباب التراجع والردة.