شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

شهداء رابعة شهداء الثورة المصرية

شهداء رابعة شهداء الثورة المصرية
تأتي الذكرى الثانية لمذبحة رابعة العدوية والنهضة، وهي أكبر وأبشع المذابح التي عرفها التاريخ المصري الحديث، بما في ذلك في فترات الاحتلال والاستعمار، والانقسامات حول طبيعة ما حدث في ذلك اليوم الأسود ١٤ أغسطس ٢٠١٣ كما هي إن

تأتي الذكرى الثانية لمذبحة رابعة العدوية والنهضة، وهي أكبر وأبشع المذابح التي عرفها التاريخ المصري الحديث، بما في ذلك في فترات الاحتلال والاستعمار، والانقسامات حول طبيعة ما حدث في ذلك اليوم الأسود ١٤ أغسطس ٢٠١٣ كما هي إن لم تكن تزداد عمقاً. فنجد أبواق النظام تعيد رواياتها المعهودة حول أن اعتصام رابعة كان اعتصام مسلح، وأن المعتصمين تم تحذيرهم وإعطائهم الفرصة تلو الأخرى لفض الاعتصام بشكل سلمي، وأن قيادات الإخوان هم السبب في اندلاع العنف وفي حجم الخسائر البشرية بإرغام شبابهم على البقاء في الاعتصام، إلى آخر تلك الروايات الكاذبة. فالحديث عن تسليح الاعتصام كان في غالبه محض إخراج إعلامي. غالبية التقارير تتحدث عن وجود من سبعة إلى عشرة أسلحة نارية في اعتصام تجاوز المشاركين فيه من رجال ونساء وأطفال خمسين ألف معتصم. أما عن فرص الخروج الآمن والممرات، فالتسجيلات، وهي بالآلاف، تكذب تلك الروايات بالكامل.

البعض اعتبر أن الاعتصام في حد ذاته كان يشكل خطراً داهماً بسبب التحريض الرجعي والطائفي الذي لم تكف قيادات الإخوان والجماعات المتحالفة معها من بثه من على المنصة الرئيسية للاعتصام. وبالفعل مأساة ذلك الاعتصام هو ذلك التجييش والاصطفاف الطائفي والإسلامي والرجعي والذي سهل كثيراً لقوى الانقلاب تبرير مذابحهم والتي بدأت قبل رابعة أمام الحرس الجمهوري ولم تنتهي حتى اليوم.

ولكن هل يعقل أن يدافع من يؤمن بأي نوع من الديمقراطية وأي مدرسة من مدارس حقوق الإنسان، بأن شعارات المنصة الرئيسية لاعتصام جماهيري لعشرات الآلاف من المواطنين تبرر قتل أكثر من ألف إنسان في مذبحة غير مسبوقة؟ خاصة وأن الشعار الرئيسي لكل هؤلاء المعتصمين كان رفض الانقلاب العسكري؟

يتحدث البعض، حتى يومنا هذا عن كون هناك مسئولية مشتركة عن مأساة رابعة بين قادة العسكر الذين أمروا بالفض الدموي وبين قادة الإخوان الذين رفضوا الفض بعد العديد من الإنذارات الواضحة! ولكن أليس ذلك صحيحاً في أي إعتصام أو إضراب أو مظاهرة؟ عندما يفض الأمن أياً من هذه التجمعات بالقوة ألا يكون الدفاع الإعلامي والقانوني أن القادة الأمنيون قد حذروا وأنذروا وأعطوا الفرصة تلو الأخرى لهؤلاء “الخارجين عن القانون” للتراجع؟ لماذا لا يقف هنا مدعي الديمقراطية والحقوق بل والثورية مع الجيش والشرطة والقضاء؟ لأن شعارات ومطالب المعتصمين أو المضربين في هذه الحالة أقرب إلى قلبه أو مزاجه أو عقله؟ بالله عليكم أي ديمقراطية وأي مبدئية هذه؟

وإذا تركنا جانباً للحظة عالم الحقوق والأخلاق والمبادئ والإنسانية أليس من واجبنا محاولة فهم أعمق لأسباب وجوهر هذه المذبحة الاستثنائية في التاريخ المصري الحديث؟ الثورة والانقلاب والثورة المضادة ظواهر تاريخية لم يخترعها المصريون. فهي سمات أساسية للعصر الذي نعيش فيه على مستوى العالم خلال ما يزيد عن قرنين. وأحد الأوجه المأساوية لفشل الثورات ولانتصار الانقلابات والثورات المضادة يتجسد في المذابح الدموية الكبري. لنحاول وضع مذبحة رابعة والنهضة في ذلك السياق التاريخي والإنساني الأوسع، ليس فقط لأنها تستحق ذلك من حيث البشاعة وعدد الشهداء والجرحى وبطولات من قاوموا وحاولوا إنقاذ المعتصمين من الهجوم الأمني الوحشي، ولكن أيضاً، هذا أمر شديد الأهمية ونحن نخطط معاً لمعارضة الانقلاب، فعلينا أن نفهم منطق تخطيط أعداؤنا إذا أردنا الانتصار عليهم ولو على المدى الطويل.

لماذا قرر السيسي أن يفض اعتصامي رابعة والنهضة بهذه الدرجة من الهمجية والدموية وبهذا الكم من الضحايا؟ لو خرجنا قليلاً من الأفكار الدارجة حول المعركة بين ما يسمى بالدولة المدنية والإسلام السياسي، والحديث عن مخاطر مزعومة على وحدة وتماسك الدولة المصرية ومخاطر الانزلاق في حرب أهلية ومصير سوريا والعراق وكل تلك الدعاية من قبل أجهزة الأمن وأذرعتها الإعلامية والتي مهدت بحالة من الذعر في قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى المصرية وأيضاً قطاعات لا يستهان بها من الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين ومهمشين، جعلتهم متقبلين فكرة التصفية الدموية لاعتصامات الإسلاميين، بل حتى في بعض الأحيان الإعلان عن الاستعداد للمشاركة فيها.

ربما أهم ما يجب الانتباه إليه هو أننا نتحدث عن مذبحة مخططة بدقة، هدفها ليس فقط فض الاعتصامين، فهذا كان ممكناً على مستوى أمني دون كل هؤلاء الشهداء والدماء. كان المخطط هو قتل عدد ضخم من المعتصمين بوحشية وإرهاب غير مسبوقين. ولكن السؤال هو لماذا؟ وهنا يجب التركيز على البعد الاستراتيجي للمسألة، وهنا تصبح دروس تاريخ الثورات المضادة والمذابح مفيدة.

في عام 1871 قام عمال وفقراء باريس بثورة عرفت فيما بعد بكومونة باريس، حيث استولوا على مفاصل السلطة في المدينة وأطاحوا بجنرالات وقيادات “الإمبراطور” لويس بونابارت، وحاولوا بناء دولة جديدة ديمقراطية قائمة على العدالة والمساواة والحرية. ولكن سرعان ما حوصرت باريس من قبل القوى الملكية، قوى الثورة المضادة، فاعتصم عشرات الآلاف من الثوار في كافة ميادين باريس ودافعوا دفاعاً بطولياً للحفاظ على ثورتهم ومدينتهم. ولكن توازن القوى لم يكن في صالحهم، وتم فض اعتصاماتهم بالقوة، ولكن بدلاً من إلقاء القبض على المعتصمين المهزومين وتقديمهم لمحاكمات، قام الجيش بسلسلة من المذابح قتل خلالها ما لا يقل عن عشرين ألف من الرجال والنساء والأطفال. وكانت حملة القتل منظمة بشكل استثنائي، ففي البداية وخلال أيام الحصار موجة إعلامية من خلال الصحف والمنشورات حول كون الثوار يرتكبون أبشع الجرائم الأخلاقية في اعتصاماتهم من جنس جماعي ودعارة ومخدرات، وأنهم ينوون في حالة انتصارهم القيام بموجات من القتل والاغتصاب لأسر الطبقات الحاكمة والوسطى المعادية للثورة والأهم من ذلك بالطبع الاستيلاء على ممتلكاتهم وبيوتهم. هكذا ارتكب الجيش مذابحه المنظمة وسط تصفيق طبقة حاكمة تخلصت أخيراً من غوغاء الثورة.

أقامت الثورة المضادة وجيشها تلك المذابح البشعة ليس لخطورة الاعتصامات والتي كانت قد حوصرت وهزمت بالفعل ولكن لكسر روح التحدي والجرأة التي انتابت فقراء المدينة والتي جعلتهم بتصورون أن بإمكانهم الثورة على “أسيادهم” ومحاولة بناء دولة جديدة ومجتمع جديد ينتهي فيه الظلم والفقر والاستبداد.

ليقفز معي القارئ مئة عام إلى الأمام إلى دولة تشيلي في أمريكا الجنوبية عام 1970. فاز بالانتخابات البرلمانية في ذلك العام تحالف يساري واسع بقيادة الرئيس سلفادور اللندي، وقامت الحكومة اليسارية بعدد هام من الإصلاحات الكبرى من تأميم لمصانع ولمناجم وإصلاح زراعي، وعلى الفور بدأ اليمين ومعه بعض قيادات الجيش وفي تنسيق مع وكالة المخابرات الأمريكية وبعض كبرى الشركات الأمريكية المتضررة من إصلاحات اللندي بالتخطيط للإطاحة بالحكومة المنتخبة. كانت الخطة في البداية عملية تخريب وتعطيل اقتصادي وقانوني لاختلاق أزمة اقتصادية تضعف من جماهيرية اللندي وترغمه على انتخابات مبكرة تسقطه وتعيد أحزاب اليمين إلى الحكم. ولكن تلك الحملة التخريبة زادت من شعبية أللندي بل وضعت البلاد في حالة ثورية حيث احتل العمال المصانع وانتشرت الاعتصامات الثورية وعندما فاز اللندي وتحالفه اليساري مرة أخرى وبنسبة أكبر من الأصوات بدأ على الفور قادة الجيش وعلى رأسهم الجنرال بينوشيه بالتخطيط لانقلاب عسكري. مرة أخرى لعب الإعلام المملوك لكبار رجال الأعمال دوره في إثارة ذعر الطبقة الوسطى: “الدولة التشيلية ستنهار”، اللندي يقودنا لحرب أهلية، سيؤممون بيوتكم ويخطفون أطفالكم ويحولون البلاد إلى جحيم شيوعي.

وبالفعل خرجت جماهير الطبقة الوسطى والأثرياء يطالبون الجيش بإنهاء الفوضى والتخلص من اللندي أياً كان الثمن. وفي سيبتمبر 1973 قام بينوشيه بإنقلابه الشهير وتم قصف القصر الجمهوري وقتل اللندي ومن معه وأعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول وخرج الجيش ليصفي بؤر المقاومة في الميادين وفي المناطق العمالية. ولكن حتى بعد انتصاره وبعد إعلان بينوشيه رئيساً للبلاد، قام الجيش بسلسلة من أبشع المجازر في تاريخ ذلك البلد حيث اعتقل عشرات الآلاف من الشيوعيين والاشتراكيين ومن مؤيدي اللندي ولم يكتفي بالتعذيب والاغتصاب المنظم بل قام بسلسلة من المذابح قتل فيها ما يتجاوز ٣٠ ألفاً من الرجال والنساء والأطفال. كل ذلك بالطبع في حالة هستيريا تأييد من قبل الأثرياء والقطاعات الأغنى من الطبقة الوسطة، كما حدث بعد كومونة باريس. كم تخاف تلك الطبقات الثورة وكم تحب دماء الفقراء. لم تكن تلك المذابح مجرد انتقام جنرال مجنون. بل كانت جزء من خطة محكمة لإنهاء الحالة الثورية ولتحويل الأمل والجرأة والطموح في قلب وعقل الملايين من من شاركوا في الحالة الثورية إلى يأس وبؤس وخوف وقبول بالهزيمة.

هذا تماماً هو المنطق وراء مذابح رابعة والنهضة. الغرض من تلك المذابح لم يكن مجرد فض الاعتصامات أو حتى تصفية الإخوان. الهدف كان ولا يزال كسر تلك الحالة الثورية التي خلقتها ثورة يناير 2011، طمس ذلك الوعي الثوري الذي ولدته تلك الاعتصامات العملاقة في كافة ميادين مصر. تحويل الأمل إلى خوف والثقة إلى انكسار والتسييس إلى لا مبالاه وقبول الواقع المرير. لم يكن الهدف مجرد استئصال الإخوان أو حتى مجرد استكمال انقلاب تقليدي من قبل وزير دفاع على رئيس منتخب. فمرسي والإخوان لم يشكلوا خطراً حقيقياً على الجيش أو الأجهزة الأمنية أو مصالح الطبقة الحاكمة. الخطر الحقيقي كان وما يزال ذاكرة ووعي ثورة 2011. هذا ما أراد محوه السيسي بمذابح 14 أغسطس وما سبقها وما تلاها. لذا فشهداء رابعة والنهضة والحرس الجمهوري والمنصة وجامع الفتح هم شهداء الثورة المصرية مثلهم مثل شهداء يناير 2011 وماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود.

وكل من شارك في القرار والقتل والتنكيل وفي التشجيع والتحريض والتبرير، وكل من شارك في حكومة الانقلاب والمذبحة وكل من برأ مجرم وحكم على بريء من قضاؤنا الفاسد، نقول لكل هؤلاء أن جرائمكم لن تسقط بالتقادم، لن نترككم تمروا على أجساد شهدائنا.

لنتعلم من أخطاؤنا ومن دروس التاريخ ولنستعد لثورة قادمة ناجحة تقتلع النظام القديم من جذوره وتفضح وتعزل كل من يخون. دماء شهدائنا لا تستحق أقل من ذلك.

المصدر ..موقع الاشتراكي

 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023