كأن ابن خلدون يعيش بعض ما يشهده الناس في زماننا، مما يعبر عن عقلية الجباية التي تتمكن من عقلية النظم التي لا تهتم بالعدل. إنه النظام الانقلابي الذى جعل أحد شعاراته “هتدفع يعني هتدفع”، الأمر لم يعد يقتصر على “مفيش ..معنديش..مش قادر أديك”، ولكن تحميل هذا الشعب كل المغارم، الشعوب عبء في تصور هذه المنظومة الانقلابية، وهي محل اختراع مكوس ما أنزل الله بها من سلطان بكل أشكال التفنن. إنها عقلية الجباية، كما عبر عنها ابن خلدون أخطر من ذلك كله أن يدفع هذا الشعب تكلفة الظلم الباهظة من لحمه الحي، ومن قوت يومه، فهل يمكن تصديق أن يحمل الشعب المصري، ببسطائه وفقرائه، فاتورة ظلمه الباهظة، حتى السجون التي يحبس فيها على نفقته.
يقول ابن خلدون، هذا العلامة العبقري، إنه إذا “احتاجت (الدولة) مزيدًا من المال والجباية، فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا، وتارة بالزيادة في ألقاب (معدلات، أسعار) المكوس، إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم، لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية، لا يظهره الحسبان (المحاسبون)، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد. (وهذا) غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة”.
وهذا بدوره من أعظم صور الظلم وإفساد العمران والدولة في رأي ابن خلدون “التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع”، فإذا تكرر ذلك، فإنه يدخل على الرعايا “العنت والمضايقة وفساد الأرباح وما يقبض آمالهم من السعي في ذلك جملة ويؤدي إلى فساد الجباية، فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار (وكذا العمال والموظفين)، لاسيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملةً، أو دخلها النقص المتفاحش”.
فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية، ويدرك الدولة الهرم، فتقل الجباية وتكثر العوائد، فيستحدث صاحب الدولة أنواعًا من الجباية، يضربها على البياعات، ويفرض لها قدرًا معلومًا على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو على هذا مضطر لذلك، بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل.
ها هو ابن خلدون يشير إلى التفنن في الجباية، وفي أنواع المكوس والضرائب. وأظنه لم
“هل يمكن تصديق أن يحمل الشعب المصري، ببسطائه وفقرائه، فاتورة ظلمه الباهظة، حتى السجون التي يحبس فيها على نفقته؟” يخطر على باله هذا النوع من الجباية الذى يرتبط بتأجير الزنازين، أي والله، تأجير الزنازين. ولما لا وقد اهتمت المنظومة الانقلابية من قبل بالتوسع في بناء السجون، يبدو أن تعهد البناء الوحيد الذي تم إنجازه في مصر، منذ الانقلاب العسكري قبل عامين، هو التوسع في بناء السجون وإنشاء معتقلات جديدة، مقارنة بالتعهدات السابقة الخاصة ببناء آلاف الوحدات السكنية التي تبخرت، وذهبت أدراج الرياح، وصارت فنكوشا لا أثر له في بلدٍ، يشكو أزمة سكانية، يرافقها تكدس المعتقلين في السجون، حيث الطلب على الظلم يتزايد في ظل هذه المنظومة الانقلابية، وتتصاعد أشكاله، حتى وصل الأمر إلى تأجير الزنازين.
الاستثمار في السجون ديدن هذا النظام الظالم، فأشارت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في تقرير لها إنه، بافتتاح سجن “15 مايو” جنوب القاهرة، يصل عدد السجون التي تم افتتاحها بعد 3 يوليو 2013 إلى خمسة، بالإضافة إلى سجنين تحت الإنشاء، من المقرر الانتهاء منهما خلال أشهر، حيث شرعت السلطات في افتتاح سجون جديدة منذ أغسطس 2013 بدأتها بـ “ليمان جمصة” شديد الحراسة في محافظة الدقهلية. وأوضحت المنظمة أن عدد السجون المصرية ارتفع إلى 42 سجنًا في البلاد، وأن تكلفة إنشاء سجن جمصة وحده بلغت 750 مليون جنيه مصري (100 مليون دولار)، مضيفة أن ميزانية وزارة الداخلية تساوي خمسة أضعاف ميزانيتي وزارتي الصحة والتعليم معًا.
واقع الأمر أن إنشاء سجون جديدة يأتي في سياق الانتقام وقمع مقاومي الانقلاب ومعارضي النظام. وهمّ الدولة ليس التخفيف من التكدس داخل الزنازين، كما يدعى الظلمة في خطابهم، يزورون ويمررون ويبررون، بل التوسع في استقبال المسجونين، فصار ذلك سياسة انقلابية عامة. وقال أحد ناشطي حقوق الإنسان إن “الدولة البوليسية تعطي أولوية لإنشاء سجون لتكميم الأفواه والانتقام من المخالفين في الرأي، أكثر من الاهتمام بالتنمية والتعليم والصحة وعمل مشاريع لتشغيل الشباب والعاطلين”.
حالة الظلم والجباية الظالمة تشير إليها إحدى المنظمات الحقوقية “إن بناء النظام المصري مزيدًا من السجون يعكس وجه السلطة القمعي التي في ظلها تردت حالة حقوق الإنسان إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق”، وأكدت أن “أوجه الإنفاق الحكومي في مصر، وإنجازات السلطة في زيادة عدد السجون؛ تعكس انهيار الحالة التي تعيشها مصر، ومدى التردّي في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان”. تنفق منظومة الانقلاب مليارات الجنيهات لإنشاء سجون جديدة، في ظل عجزها عن توفير أسرّةٍ للمرضى في المستشفيات، أو مقاعد لطلاب المدارس والجامعات، أو أماكن سكن للأزواج، أو لأولئك الذين يعيشون في العشش والعشوائيات والمقابر. وليست أزمة السجون ومقرات الاحتجاز المصري في قلة عددها، وإنما في الزج بعشرات الآلاف داخلها من دون مبرر، ما سبب خللا في الطاقة الاستيعابية للسجون؛ أدت إلى وفاة عدد من المعتقلين، منوهة إلى أن سلطات الانقلاب “توسعت في عمليات الاعتقال التعسفي، بسبب الرأي السياسي المعارض؛ ليتجاوز عدد المعتقلين 50 ألفًا، من بينهم آلاف الشباب من أصحاب المستقبل الواعد، وآلاف الخبرات في كل التخصصات، بل تحوي هذه السجون “نساءً وأطفالًا ومرضى”.
أسأل ابن خلدون: هل خطر على بالك أن تؤجر سلطة زنازين ضمن عقلية جباية؟ .. أهل الانقلاب يتفننون. إنهم شياطين، أيها الشعب الحر “عودوا إلى الميادين”، فليس هناك بعد ذلك استخفاف من نظام يحاول أن يجعل كل هذا الشعب مساجين، ويؤجر الزنازين. “عودوا إلى الميادين”.