شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الديمقراطية حق!

الديمقراطية حق!

بقلم: محمد شريف كامل

لقد عانت شعوب العالم عصورا طويلة باستسلامها للعبودية، وعرف التاريخ حركات التحرر وروى قصص كفاح عديديه، بدأها بقصة سبارتاكوس الذي قاد أكبر انتفاضة للعبيد قبل الميلاد في وجه الرومان، وكان تمرد موسى عليه السلام على فرعون مصر، ثورة انتهت مرحلتها الأولى بالخروج من مصر. وكان ميلاد المسيح عليه السلام بداية لثورة تحرر أخرى، حيث قامت دعوة المسيح على عبادة الله والتخلص من عبادة الإنسان التي هي اقصى درجات الرق. وكانت دعوة محمد علية الصلاة والسلام دعوة تحرر شاملة ضد العبودية التي ما لبس الاستعمار الغربي ان يعيدها للأذهان بتجارة الرقيق التي عاشتها الولايات المتحدة حتى الستينات من القرن الماضي، حيث كانت ثورة السود، وجميعنا يعرف قصة مارتن لوثر كينج.

والمدقق في الأمر يلاحظ ان العبودية كانت جزء أساسي من بناء الحضارة الغربية في أوروبا ثم الولايات المتحدة، ومع انطلاق الثورة الصناعية تحولت تلك العبودية من استعباد الفلاح حتى استعباد العامل، وفي الحالتان لم تتغير العلاقة، علاقة الاستغلال التي لم تختلف عن رق العصر القديم إلا في الشراء او الاجر البخس مقابل عمل بالإكراه، عبودية من خلال استغلال حاجة الانسان وامداده بأقل أجر ممكن، اجر لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع العائد من الجهد المبذول.

أن علاقة ما تقدم بالديمقراطية علاقة وثيقة في كل هذه العصور من قبل الميلاد وحتى اليوم، فكانت الديمقراطية القديمة المعروفة عند الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وسبقتها الهند بقرن من الزمان، وعاشت هذه الديمقراطيات الصغيرة (ديمقراطية المحليات وليست مركزية) حتى قضت عليها الامبراطوريات. وتساوى مفهوم تلك الديمقراطية بالديمقراطيات الحديثة والتي اتسمت وحتى الستينات في الأميركتين بشكل يمكن ان يطلق علية الديمقراطية الطبقية العنصرية، حيث خصت الديمقراطية طبقات من المجتمع دون غيرها وعنصر دون غيره، مثل ديمقراطية النبلاء دون الرعاة (عامة الشعب) وديمقراطية البيض دون السود.

وما زلنا نعيش هذه الديمقراطية القاصرة في كثير من انحاء العالم، بل وامتدت لتشمل دول وشعوب، فأصبحت الديمقراطية وكأنها منحة تُمنح، كما قال العديد من المتسلطين على شعوبهم بأن شعبه غير مستعد للديمقراطية، ويجب هنا ان نلاحظ مقولة “شعبة” فالديكتاتور المتسلط يعتبر المواطنين ملك له، فهو يستعبدهم، حتى وان توهموا انهم احرار، واستعباد العصر الحديث لم يعد شراء الانسان بالشكل المباشر بل استخدمت وسائل عديدة للوصول بالشعوب لحالة العبودية الكاملة.

منها التأثير على الإحساس الداخلي للإنسان بتسليط أجهزة الاعلام على عقله الباطن وهو ما يعرف بـ “غسيل المخ”، وهذا الأسلوب قادر على فرض السيطرة على ثلث المجتمع، وهو القطاع الأبسط والاضعف. ويأتي من بعد ذلك انصاف المثقفين الذين يمثلون الثلث الثاني من الشعب، ويمكن السيطرة عليهم عن طريق ما عرف بـ “النخب المثقفة”، حيث تستولى تلك النخب على عقول التابعين فتوجههم في الطريق الذي يرسمه النظام، بينما يتصور المتلقي انه حر وانه مستنير وعاقل لذا فهو يسلك ذلك الطريق مثله مثل تلك النخب، وهم ليسوا إلا أصحاب منفعة مباشرة أو غير مباشرة.

والقسم الثالث الذي لم يستسلم للإعلام المفسد ولا للنخب المضُللة، فامتلاكه يتم عن طريق زرع الخوف في قلوبهم، ويتم ذلك بالإرهاب المباشر الذي تمارسه الانظمة القمعية، فيقمع الثلث الرافض ويرضى الباقين عن ذلك، بل منهم من يؤيد ذلك القمع، قناعة منهم لما قدمه لهم الاعلام والنخب.

إن تقسيم الشعب لثلاثة أجزاء مثيل لذلك المنطق الذي بنت علية دولة محاكم التفتيش، حيث امر البابا بقتل الثلث وتحويل الثلث وطرد الثلث، وهي مماثلة لقصة الثيران الثلاث في كتاب “كليلة ودمنه” وهي تقرب من المبدئ الاستعماري المعروف “فرق تسد”، وجميعها تعتمد على التفرقة لتسهيل عملية السيطرة.

لقد مر ذلك كله بمخيلتي وأنا أتابع الانتخابات العامة بكل من كندا وتركيا وجمهورية الموز، التي عرفت باسم مصر سابقا. ففي كندا على سبيل المثال، هناك ما يعرف “بالانتخابات” وقد حكم المحافظون قرابة العشر سنوات وكادوا ان ينطلقوا لأربع سنوات أخر وخرج الناخبون للأدلاء بأصواتهم عقب صراع شديد ليُنَصبوا الحزب الثالث “الاحرار”، للحكم وينقلوا الحزب الحاكم “المحافظين” للمعارضة، وتمت العملية الانتخابية عبر معركة على اصوات الناخبين، معركة بالمفهوم الديمقراطي، مع نسبة مشاركة 68.5% وهو أقل من المعدل المتوسط لأغلب الدول الغربية، ولكنه المعدل المعتاد في كندا.

وعلى التوازي كانت الانتخابات التركية، والتي اجريت للمرة الثانية خلال خمسة أشهر، حيث ان الانتخابات الاولي لم تسفر عن حزب أغلبية يتمكن من تشكيل الحكومة منفردا، ولم يستطع أي منهم ان يقنع الاخرين بالدخول في تحالف، وفي الانتخابات الثانية حصل الحزب الحاكم على الثقة للمرة الرابعة على التوالي عقب صراع شديد، وتمت الانتخابات هي الأخرة عبر معركة بالمفهوم الديمقراطي، بنسبة مشاركة 85.2% وهي نسبه تعد في الإطار المعتاد للانتخابات التركية.

الفارق بين الانتخابات الكندية والتركية ينحصر في ان كندا منذ نشأتها في 1867 وهي تحكم بالنظام البرلماني الذي يتم اختياره بالانتخاب الحر المباشر، اما تركيا فالنظام الانتخابي الحر الذي مورس منذ 1923 تعرض لهزات متعددة بتدخل الجيش في السياسة بالانقلابات المتعددة، 5 انقلابات كان اخرها انقلاب 1997، بالإضافة لثلاث محاولات فاشلة أخرى. وذلك هو ما حفز الشعب التركي على حماية الديمقراطية، وهو من الأسباب الرئيسية في ارتفاع نسبة المشاركة، رغبة منهم وحرصا على الحفاظ على الحق في انتخاب ممثليهم واستمرار سيطرة الشعب على مقدراته.

وتأتي بعد ذلك انتخابات جمهورية الموز (مصر سابقا)، فالانتخابات في مصر لم تتم بالشكل الديمقراطي المتعارف عليه إلا في الفترة ما بين فبراير 2011 ويوليو 2013، وعاش الشعب المصري حلم أو وهم الاستحقاقات الخمس (استفتاء خارطة الطريق، انتخاب مجلس الشعب، انتخاب مجلس الشورى، انتخاب الرئيس، استفتاء الدستور)، فكانت هذه هي المرة الوحيدة التي تشهد فيها مصر انتخابات حقيقية، والوهم كان في موقف الجيش الذي انتهى بالانقلاب، انقلاب ثبت انه تم مع سبق الاصرار والترصد ولمصالح أطراف متعددة ليس منها الشعب المصري.

وتلي الانقلاب على الديمقراطية، تزيف اخر لإرادة الشعب، حيث اعيد كتابة الدستور ليوافق مخطط الانقلاب، ونَصبت الدولة العميقة السيسي رئيسا ليقود مزاد بيع مصر في سوق النخاسة، وقد تم ذلك في ظل صراع اعلامي حاول من خلاله ممولي الانقلاب إثبات انهم هم المسيطرون على الأمور وليس الجيش، وهذا حقا، ثم نعيش تلك الأيام مأساة كبرى تسمي “انتخاب البرلمان” والتي تتم على عدة مراحل ابتدعها النظام سابقا (احمد عز) للسيطرة على النتائج، وكانت نسبة حضور المرحلة الأولى وبأعلى تقدير 10%. ولم اتطرق هنا لأن المرشحين جميعهم من مؤيدي الانقلاب، وان هناك قطاع كبير من الشعب قد غُيب بالقتل والسجن فكان الاحجام عن المشاركة لسقوط قيمة صندوق الانتخاب بالانقلاب، والمقاطعة التي فرضت نفسها.

لقد نجحت الانتخابات في كندا وتركيا لاحترام قيمة الديمقراطية والاحتكام المطلق لصندوق الانتخاب النزيه، بلا استبعاد ولا تدخل من أي من أجهزة الدولة، واُفشلت في جمهورية الموز لأن الشعب رضي بالاستعباد والاستسلام لاحد أدوات القهر.  

إن الانسان الذي يرضى بان يُستعبد بلا مقابل، فهو لا يجد قوت يومه ولا يملك قرار غده، لا يستحق ان يوصف بأنه انسان، فالعبد الذي بيع في سوق النخاسة كان أكرم منه، لأنه صُنف كعبد ولم يتوهم يوما انه حر وصارع العبودية حتى تحرر. إن اول خطوات التحرر من العبودية هو الاعتراف بالخلل والاقرار بأن الأدمية والمواطنة والمساواة هم أسس لا جدال حولهم، وهو ما كافح من اجله أجيال حتى تحقق لهم الحلم وملكوا زمام امورهم وكونوا الديمقراطيات الحديثة.

ولكون الحرية طريق لامتلاك زمام الأمور، ورد الحق لأصحابه، مما يخل بمصالح المستغلين والمتسلطين، فإن الديمقراطية لا تُمنح ولكنه تُنتزع، لأنها حق والحقوق لا يُفرط فيها، فلا يستحقها إلا الاحرار أمثال الشعب التركي والشعب الكندي، ومناضلي الشعب المصري.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023