شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الفقيه وتحديث المؤسسة العسكرية في بواكير القرن التاسع عشر

الفقيه وتحديث المؤسسة العسكرية في بواكير القرن التاسع عشر
حين تبنت الدولة في العالم الإسلامي إنفاذ مشروع التحديث في القرن التاسع عشر كان من المنطقي أن تستهله بتحديث المؤسسة العسكرية، المؤسسة الأهم في الدولة الحديثة ومن دونها يتعذر نجاح مشروع التحديث الذي تم قسرًا في كثير من مراحله ك

حين تبنت الدولة في العالم الإسلامي إنفاذ مشروع التحديث في القرن التاسع عشر كان من المنطقي أن تستهله بتحديث المؤسسة العسكرية، المؤسسة الأهم في الدولة الحديثة ومن دونها يتعذر نجاح مشروع التحديث الذي تم قسرًا في كثير من مراحله كما هي الحال في المؤسستين الطبية والتشريعية، واقتضى الأمر التلويح باستخدام القوة واستخدامها فعليًا في بعض الأحيان.

والدولة العثمانية هي أول دولة إسلامية تفطن إلى حتمية تحديث مؤسستها العسكرية وذلك إثر إخفاقها العسكري أمام روسيا في أواخر القرن الثامن عشر حيث أيقن السلطان سليم الثالث “1761-1808م” أن جيش الإنكشارية بأدواته وتقنياته العتيقة لم يعد بمقدوره إحراز نصر عسكري على خصم الدولة اللدود. أما في مصر فقد كان طموح حاكمها الشاب محمد علي لتشييد دولة قوية دافعاً له لإنشاء جيش على الطراز الحديث يحل محل الجماعات المملوكية المقاتلة التي عجزت عن التصدي للجيش الفرنسي.

وكانت كُلفة التحديث باهظة إذ أطاح الإنكشارية بالسلطان بعد استصدارهم فتوى من شيخ الإسلام مفادها أن كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحاً للمُلك، وكاد الأمر في مصر أن يتحول إلى انقلاب عسكري في اليوم الأول لتدريب الجماعات المملوكية على الأساليب القتالية الحديثة لولا رباطة جأش محمد علي واستخدامه العنف والشدة بحق المعترضين.

ولعل هذا ما ولد قناعة في الدولتين بأن التحديث لن يتحقق إلا بالاستئصال التام للنخب العسكرية الإنكشارية والمملوكية وهو ما تحقق فعليًا بعد مقتلتين كبيرتين في مصر ثم في الدولة العثمانية، لكن هذا لم يكن كافيًا وحده لنجاح سياسة التحديث إذ واجه ولاة الأمر في الدولتين إشكالية أخرى تتعلق بضرورة إعادة صياغة الأفكار الإسلامية المتعلقة بالجيش، واحتاج الأمر إلى غطاء ديني يضفي الشرعية على عملية التحديث، وهنا يبرز المفتي ابن العنابي الجزائري “1775-1851م” بوصفه واحداً من أوائل الفقهاء الذين أسبغوا الشرعية على هذه السياسة التحديثية ومهدوا لتلك الأفكار.

وينحدر ابن العنابي من أسرة علمية جزائرية ذات أصول عثمانية كان يعهد إليها عادة بوظائف القضاء والفتوى على المذهب الحنفي، وهو ما أهله لأن يتولى منصب القضاء ثم الفتوى، وتوثقت علاقاته مع حسين باشا والي الجزائر الذي عهد إليه ببعض المهام السياسية في تونس والمغرب المجاورتين ثم في الدولة العثمانية، كما كانت له زيارات أخرى إلى مصر التي قضى فيها بضع سنوات في عشرينات القرن، ثم عاد مجدداً إلى بلاده وغادرها بعيد الاحتلال الفرنسي حيث استقر به المقام في مصر حتى وفاته.

وخلال إقامته بمصر توثقت علاقته بمحمد علي الذي عينه مفتياً للإسكندرية، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن الباشا كان يختصه دون الأزهريين ببعض المهام، فقد طلب منه أن يضع كتابًا منتخبًا من صحيح المذهب الحنفي ليكون مرجعاً للقضاة وقد حالت وفاة محمد علي دون إتمامه، ويبدو أنه يقف بشكل أو بآخر وراء كتابه الأشهر “السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود” الذي اطلع عليه وطلب من أحدهم اختصاره.

والكتاب من أوائل الكتب التي تناولت تحديث المؤسسة العسكرية من المنظور الفقهي، ومضمونه ليس فقط ما يسترعي الانتباه وإنما توقيته كذلك، فقد كتبه ابن العنابي أثناء إقامته الأولى بمصر وتحديدًا عام 1826م وهو العام الذي شهد تخلص السلطان العثماني من الإنكشارية وأعقبه الإعلان عن تأسيس الجيش العثماني الحديث الأمر الذي يرجح أن الكتاب لم يكن بعيداً عن هذه الحوادث.

وينقسم الكتاب إلى قسمين أو مقصدين بحسب توصيف مؤلفه؛ أحدهما يتعلق بالأمور الحربية ويشغل ثلثي الكتاب تقريباً والآخر يتعلق بالأمور السياسية، ومع السطور الأولى نلحظ حضور الغرب صريحاً من دون مواربة، وهو حضور نادر لدى الفقيه في مطالع القرن التاسع عشر، فالإشكالية البحثية التي افتتح بها الكتاب -بحسب مؤلفه- هي تطاول طغاة الأمم الكافرة على ترتيب جندهم وتدريبهم على طرق وأساليب قتالية لا عهد للمسلمين بها قصداً لمكيدة الإسلام وأهله فلم يعد بمقدور الجند الإسلامية تفريق شملهم على رغم استبسالهم فدعت ضرورة الحال إلى تدريبهم على النظام الجديد الذي وضعه الكفار، وصدر بذلك أمر من الدولة العلية فضيقت ملابس الجند واختصرت رتب العساكر على نحو جديد فاستكره الناس ذلك ورأوا فيه اندراسا للتقاليد الإسلامية.

ويؤسس ابن العنابي كتابه على فرضية جواز اقتباس النظام العسكري الغربي، وهو يسوغ ذلك الاقتباس عبر آليتين أولهما فقه الضرورة؛ فهو يصرح في مواضع عدة من كتابه أن “ضرورة الحال” و”الحاجة” تدعوان المسلمين إلى تحديث نظامهم العسكري الذي ألفوه منذ قرون، وهذه الإشارة إلى فقه الضرورة لها ما يبررها إذ ليس هناك من الشواهد النصية ما يدعم صراحة جواز الاقتباس عن الآخر، والثانية وجوب الطاعة لولي الأمر؛ فالطاعة تعني ضرورة الانقياد ظاهرًا وباطنًا ومغالبة الكراهة الطبيعية لمن عظم الله قدره وجعل طاعته من طاعته، لذا يجب امتثال أمر السلطان في الأخذ بالنظام حتى لا يخرج المسلم عن الطاعة المطلوبة منه فإن مات كان على الجاهلية.

ولما كان من العسير على ابن العنابي أن يقطع بجواز إدخال النظام الجديد استنادًا إلى فقه الضرورة ومبدأ الطاعة وحدهما فقد كانت الحاجة ماسة إلى البحث عن بعض الشواهد النصية الداعمة حتى وإن لم تكن ذات صلة مباشرة بالموضوع، والنص المركزي الذي استند إليه قوله تعالى “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” ومن خلال عملية تأويل النص ذهب إلى أن القوة تشمل الأمور الحسية المادية والأمور المعنوية، وهي تشتمل على أي منفعة لها تعلق بإعزاز الدين ورفعة شأنه مما اشتمل عليه النظام الجديد للكفرة لاندراجه في عموم الآية الكريمة.

وقد توسع ابن العنابي كذلك في استخدام القياس، وأهم مواضعه ما أورده تحت عنوان “جواز تعلم العلوم الألية من الكفرة” حين جاء بحديثين نبويين يجيزان تعلم اللغات الأخرى على يد غير المسلمين ليقيس عليها العلوم الصناعية ويذهب إلى جواز تعلمها على أيديهم، ثم يمد الخيط ليصل إلى جواز الاستعانة بغير المسلمين من الغربيين في الجيش المسلم وهي مسألة يتعذر إثباتها لمخالفتها صنيع النبي صلى الله عليه وسلم لذا راح يبحث في النصوص الفقهية حتى عثر على نص للإمام السرخسي يذهب فيه إلى أن في الاستعانة بهم زيادة كبت وغيظ لهم فنقله عنه.

بيد أن هذا لا ينبغي أن يحملنا على الاعتقاد أن ابن العنابي يدعو للانفتاح على الغرب والاقتباس عنه مطلقًا، فهو من أوائل الإصلاحيين المسلمين الذين ميزوا بدقة بين منتجات الحداثة المادية التي يجوز برأيه نقلها وبين أفكار الحداثة أو ما يسميه “السياسة العقلية” التي لا يحل لنا اقتباسها لكون التشريع والسياسة من وضع الشارع جل شأنه، وعليه فإن ما عليه الكفرة من سياساتهم العقلية فنحن في غنى عنه بحسب قوله، لكنه لما كان مُدركًا أن الدولة العثمانية ومصر انفتحتا على أفكار الحداثة واقتبستا بعضًا منها استدرك بالقول إن كانت هذه الأفكار لها أصل في ديننا ورغبنا في العمل بها فيجب أن يكون ذلك “على نية أخذه من شرعنا لا قصد اتباعهم فيه لأنه لا يحل لنا ذلك”.

وهذه العبارة الأخيرة توحي بأنه كان يتوقع أن يؤدي الأخذ بمنتجات الحداثة المادية عاجلًا أم آجلًا إلى الأخذ بأفكارها لذا جاءت دعوته إلى التحديث خجولة مشوبة بالحذر ومصطبغة بطابع التقليد حيث أراد التحديث من مداخل جد كلاسيكية معتمدًا لغة الأقدمين وتقنياتهم الفقهية.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023