كنت قد ذكرت في مقالات سابقة وصفاً لمؤسسات الدولة أنها مؤسسات “كأن” ومع الانقلاب بدت الأمور أسوء وأشد في أداء هذه المؤسسات لوظائفها فصارت وكأنها في “دولة الضد”، نقصد بدولة الضد قيام المؤسسات الأساسية في الدولة من قضاء وأمن وجيش وإعلام بعكس مقصود وظائفها، فإذا كان الجيش يقوم على تأمين الحدود فإنه ينصرف إلى شؤون أخرى من الانخراط في السياسة والعمل في ميدان المشاريع الاقتصادية وممارسات لا يمكن أن تليق بالجيوش من قريب أو بعيد تَصرِفها عن مهمتها الأساسية، بل هي أكثر من ذلك يمكن أن تجعل من سلاح هذه الجيوش يوجه إلى الشعوب ولا يواجه العدو، فيقتل ويطارد ويروع عموم الناس والمواطنين.
هذا عن جيش الضد، فماذا عن دولة الأمن الزائف؟ حينما تقوم الأجهزة الأمنية وأجهزة الشرطة على وجه الخصوص بكل ما من شأنه ترويع الناس وإفزاعهم بدلاً من طمأنتهم والعمل لأمانهم، وهم يقتلون عموم الناس بدم بارد وبأي دعوى، ويختطفون المواطنين من بيوتهم ومن أعمالهم وحتى حين مسيرهم في الشوارع، ويقومون بكل عمل يُعرض المواطن إلى حالة من الخوف المقيم والفزع من ممارسات تؤدي بالناس إلى حياة مطاردة لتتحول إلى جحيم، ويُسَمّون كل ذلك أمنا وتأمينا، وهو في حقيقة الأمر فزع وترويع فصارت أجهزة الأمن أجهزة لصناعة الخوف والتخويف.
وها هي أجهزة الأعلام التي احترفت الإفك في إعلامها والتبرير لكل مستبد في إعلاناتها إنما تعبر في حقيقة الأمر ليس عن إعلام الحقيقة والصدق ولكنه إعلام الخديعة والكذب والإفك، فصار الإعلام بعكس مقصوده إعلام الضد ينشر الزيف ويزور الحقيقة ويدشن الإفك ويصنع التزوير، والركن الرابع من تلك المؤسسات مؤسسات الضد يشير إلى القضاء وهو أخطرها جميعاً إذ يحول وظيفته في العدل والإنصاف إلى عكس مقصودها في ممارسة كل ظلم وإجحاف ويصدر أحكاماً بالشبهة أو بالأوامر العليا فيمارس كل ما من شأنه أن يكرس الظلم البين في أحكامه والجور الواضح في كل ما يتعلق بالتقاضي، فتصير الأحكام بدلاً من أن تكون عنواناً للحقيقة والعدل فإذا بها عنوان للزيف والتلفيق والظلم.
أردنا بتلك المقدمة الطويلة أن نشير إلى أحكام صدرت، اجتمعت فيها المؤسسات الأربع لتلفق قضية من أخطر تلفيقاتها على وجه الإطلاق، إنها قضية التخابر مع دولة قطر، هكذا اتخذت هذه القضية عنواناً وفي الحقيقة فإن المؤسسة العسكرية التي حرصت دائماً على أن يكون القضاء من مساحات هيمنتها وسيطرتها سواء بالشكل المباشر من خلال القضاء العسكري أو بالشكل غير المباشر بالهيمنة على القضاء الاعتيادي وهو ما يذكرنا بأن المجلس العسكري الذي حكم بعد ثورة يناير وحينما أُتي بالجنزوري رئيساً للوزراء، فإن المشير طنطاوي الذي ترأس هذا المجلس وبضغوط احتجاجية فوّض كل سلطاته لرئاسة الوزراء إلا في أمرين، شؤون الجيش والحرب وشأن القضاء، وفي ذلك الوقت كنت أستغرب لماذا اختص المجلس العسكري نفسه بالهيمنة وبالتسلط في شأن القضاء ولكن ما حدث بعد ذلك أشار وبشكل واضح وقاطع لماذا تم ذلك.
إن هذه الأحكام التي صدرت على الرئيس المدني المنتخب المختطف وتلفيق تهمة التخابر له مع دولة قطر إنما يشكل في حقيقة الأمر تلك المفارقات العجيبة في دولة الانقلاب، دولة الضد ومؤسسات الضد، فاجتماع العسكر والقضاء في هذه القضية الملفقة أمر شديد الوضوح والتحريات المفبركة قامت بها أجهزة أمنية في محاولاتها لطبخ القضية لتعبر بذلك عن انضمام أجهزة الأمن للعسكر والقضاء، في القضية ذاتها يأتي الإعلام ليمثل المؤسسة الرابعة بسدنة إفكه الذين روّجوا لتهمة التخابر تلك، ومحاولته إقحام إعلاميين شرفاء يمثلون “قناة الجزيرة” وكأن الأمر يسير في طريق الانتقام من قناة إعلامية أيدت ثورة يناير ثورة الشعب وكشفت حقيقة الانقلاب على إرادة الشعب بدور مزدوج يتضمن إفك الإعلام ومواجهة الإعلام الكاشف الصادق.
هكذا اجتمعت تلك المؤسسات الأربع مؤسسات الضد في هذه القضية وفي إطار منظومات الانقلاب، وحينما وجدت دولة مثل قطر أن الأمر يسيء إليها كدولة، صدر البيان ليؤكد ويكشف عن زيف تلك القضية وفبركة تلك الاتهامات فما كان من جهاز الخارجية المصرية إلا أن يصدر بيانا يرد فيه على بيان الخارجية القطرية امتشق فيه الحسام وامتلأ بفائض الكلام يتحدث عن تاريخ القضاء الناصع ومؤسسة العدالة ونسي هؤلاء جميعاً أن الانقلاب وسلطاته هم أول من خرّب مؤسسات الدولة التي حولها عن حقيقتها ولم يكتف فحسب بجعلها مؤسسات للزينة “مؤسسات كأن” إلى مؤسسات تمارس عكس وظائفها ومقصودها “مؤسسات الضد”.
ليعبر العسكر في هذا المقام عن تخريب متعمد لمؤسسات الدولة وعلى رأسها القضاء فإن استفسرت في حقيقة الأمر عن الخاسر الأكبر بعد كل هذه الأحكام وأحكام الإعدام، أقول لك هو القضاء لأنه فقد جوهره وتحطمت كينونته وقام بعكس وظائفه وأدواره وصارت المؤسسة مسخا مشوها لا يمكنها بحال أن تنال ثقة عموم الناس، وتحقيق المقصود في إشاعة العدل وإنصاف الخلق.
يعني ذلك أن كل ما يحدث في مصر الآن يشير في حقيقة الأمر إلى انهيار الدولة في وظائفها وجوهر أدوارها، ثم يقول المنقلب بعد ذلك إنه لو انتهت مدته الرئاسية الأولى وقد حافظ على الدولة فإن ذلك هو الإنجاز، مؤسسة عدالة قد خربت وصارت مؤسسة القضاء “مؤسسة ضد”، تمكن للظلم وتشيع مسارات الإجحاف بدلاً من طريق العدل وقواعد الإنصاف. فهل يمكن أن يعد ذلك إنجازا كما يرى المنقلب؟ قضاء منحدر وأحكام مجحفة وإعدامات بالجملة، وقضايا ملفقة وتحريات مفبركة، هل يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن منظومة عدالة يطمئن لها الناس، تعدم الناس بالشبهة؟ ومن الغريب حقا أن يتحدث القاضي عن خيانة الوطن، وهو يمارس أقسى خيانة للقيم والإنسانية ويعمل في خدمة منظومة انقلاب واستبداد تمارس فعل خيانة الوطن متعينا متلبسا ببيع أرضه والتفريط في مقدرات بلده، مستهينا بضرورات شعبه ومفرطا في ماء نيله باتفاقاته المشبوهة وتعهداته المفرطة المرذولة، ألم يكن أجدر بالقاضي أن يوجه سهام كلامه وأوصافه بالخيانة إلى الخائن الحقيقي؟ بدلا من هذا الاستعراض الكلامي فيتحدث من يخون عن خيانة الآخرين؟ إنه عصر الرويبضة!!.