عند ذكر الحديث عن مطالبة المصريين بالتبرع للوطن عبر مبادرات وحملات الغرض منها تفريغ جيوب المصريين فقط من الأموال لسد العجز في الموازنة العامة الخاوية ، حتى وصلنا إلى فكرة مشروع ” الفكة ” الاستراتيجي بدعوى المساهمة في المشروعات القومية ، ينبري شيوخ السلطان في تسويغ تلك الدعوات شرعياً ، وتيريرها فقهياً ، فيما تُرتكب كل الموبقات بإسم الدين إرضاءً للحاكم إما خوفًا أو طمعًا أو كلاهما معاً ، ذلك أن ثمة توافق تام وتواطؤ مريب بين الحاكم وشيوخه الخانعين المنبطحين على مصالح العباد حتى لو خربت البلاد ، فيصير الحلال حراماً والحرام حلالاً ، والتبرير الظاهري الخادع لتلك الاجراءات، هو حماية البلاد من مصير الفوضى ، وإتقاء مغبة الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فضلاً عن طاعة ولي الأمر الذي هو من طاعة الله ورسوله.
عندما ينهب رجال الحاكم المال العام ، يجد من يسارع بتبرير ذلك النهب من شيوخ السلطان بأنه حالة فردية سيقف لها الرئيس بالمرصاد ، وعندما يطلب من الشعب التبرع ، أو يفرض عليهم الضرائب ويقهرهم بالجباية ، نجد من يُحلل تلك الاجراءات العظيمة بأنها واجب وطني وشرعي ، وتعد علامة من علامات الوطنية ، وإحدى فضائل الإيمان(وكله بالكتاب والسنة) ، ومن يرفض اجراءات الرئيس المؤمن ، فمشكوك في دينه ووطنيته.
أما في زمن سلاطين العلماء الشوامخ أمثال العز بن عبد السلام ومحيي الدين النووي وغيرهم ، فشتان ما بين الثرى والثريا ، فقد أجمع المؤرخون على تأييد أحداث مشرفة في تاريخنا المجيد للإمام النووي في زمن السلطان المملوكي صاحب التاريخ العسكري والاصلاحي والتنموي المبهر” الظاهر بيبرس ” عندما تصدي له وهو في ذروة قوته وانتصاراته عندما استحل أموال الناس من التجار والشعب فأطلق يد رجاله وأعوانه من العسكر يغصبون ويسلبون ما تتلقفه أيديهم دون مراعاة لوجه العدالة ، واشتد في جمع الضرائب والمكوس بحجة أن الدولة تتهددها الأعداء من كل جانب ، وتتهيأ للحروب التي تتطلب السلاح والعتاد.
ذلك أن الضرائب في الإسلام حق إذا حُددت بقدر، وقُيدت بزمن ، أما إذا كانت عملاً مستمراً لا تحديد معه في قدر أو زمن فهي نهب صريح ، فالسلطان يقيم المشروعات ويعطي الهبات ويعيش أتباعه في بذخ مفرط ، ولابد من فرض الضرائب دائماً ، فاستفتى بعض العلماء في ذلك بحجة أنه ذاهب إلى نصرة الإسلام منتهزاً في ذلك خروجه لتأديب بعض العصاة ، ومحاربة من أغاروا على أطراف الدولة من الأعداء ، فأجابوه إلا العالم التقي الشاب “النووي”.
فما كان من السلطان “بيبرس” إلا أن عقد اجتماعاً عاجلاً لأصحاب الرأي والوجاهة من الأمراء والقضاة ليناقش “النووي ” في امتناعه ، ليُظهره في صورة مثبط العزائم والمُخذّل عن قتال الأعداء ، ومجالدة الكفار كما يقول الشيخ الراحل د.محمد رجب البيومي ، وانعقد الجمع الحاشد وصاح السلطان بالشيخ: لماذا لا تُجيز أن تُجمع الأموال من المسلمين ، لننفقها في الجهاد كما أجاز ذلك زملاؤك الأئمة والقضاة؟!
فدهش السلطان حين سمع ” النووي” يقول في عزةٍ وإباء : كلنا نعرف أن لديك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة(سير طويل يُشد به حزام الدابة) من ذهب ، وعندك مائتا جارية ، لكل جارية نصيب من الحُلِيّ ، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود(وشاح) الصوف بدلاً من الحوائص ، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحُلِيّ ، فهنا- فقط- أجيز لك أخذ المال من الناس!
فصرخ السلطان الظاهر في انفعال : اخرج من بلدي ، إذ لا يجوز أن تساكنني في دمشق. فقال النووي ، وما أدراك أني سأقبل المقام لديك، لابد من الرحيل ثم انسحب من المجلس فسار وراءه نفر من العلماء ، ووجم السلطان حين نظر قوماً يسيرون مع الشيخ ، فتذكر العز بن عبد السلام ، وآثر الانقياد.
نستخلص من الرواية السابقة درساً يبين لنا كيف يكون العالم العامل الفقيه الورع بحق المستقل عن الهوى وعن الحاكم ، وكيف تدرج الامام ” النووي” بفطنة العالم في إجازة فرض الضرائب والجباية والمكوس على الناس بعد البدء أولاً بأموال ولي الأمر ورجاله والأمراء ، ثم النظر في ما في أيدي الناس ، إذ إنه ليس من المقبول أو المعقول قهر العباد بالضرائب ودغدغة مشاعرهم بضرورة التبرع للوطن تحت مسمى(تحيا مصر مثلاً) ، حتى لو كان بحجة الجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن حدود الدولة ، في الوقت الذي يرفل فيه الحاكم ورجاله ووزراءه وجنرالاته وقضاته وأذرعه الاعلامية في النعيم والرخاء من قوت وأموال الشعب الذي يرهقون كاهله بمزيد من الأعباء ، بينما يُترك اللصوص والمحتكرين طلقاء ، ويعيش الحاكم على التسول من الخارج والتبرع من الداخل.