“رهاب الثورات الملونة”، إنه المرض الروسي المزمن، أو سلسلة رآها الروس سببًا في إحداث تغيرات دولية كبيرة عرفتها السياسة الدولية وتوازن القوى في الدول والأقاليم، والآن تُفاخر روسيا أنها قطعت هذه السلسلة؛ وهي مهمة جيوسياسية في مفهوم وزير الدفاع الروسي أعان عليها التدخل الروسي في سوريا.
لم يَخْفَ على أحد حينها نهج موسكو عقيدةً عسكرية توسعية جديدة لها أهداف طويلة الأمد، اقتضى ذلك الحفاظ على وجود دائم لأساطيلها في البحر المتوسط ومواقع أخرى هناك، كما وضع البعض تحركها العسكري في سوريا في سياق تحدي ما تصفها بالهيمنة الغربية على العالم.
فكان أن تحدته في أوكرانيا ثم سوريا، التي كشف خبراء عن مشروعات هناك تهدد سيطرتها على تصدير الغاز إلى أوروبا.
والروس الذين يقرون بأن القوة العسكرية أصبحت الأداة الرئيسة في حل المشكلات الدولية لطالما سعوا إلى تدخلهم في سوريا لمحاربة من يصفونهم بالإرهابيين.
لكنهم يضيفون لأهدافهم اليوم ما بدا “إخمادًا لثورات العرب”، ثورات علمت بها موسكو في أفنيتها الخلفية وتخشى من عدواها أشد الخشية؛ فلعلها ارتدّت حتى إلى داخل روسيا. وهكذا وجدت موسكو مشروعات حلفاء في بعض المنقلبين على الربيع العربي، كما حدث في مصر؛ بزعم أنهم يمثلون إرادات شعوبهم، كما دفعتها منافع شتى لربط صلات مع آخرين في ليبيا معجبين، فيما يبدو، بالتجربة المصرية.
وكبداية، ثمة حديث عن مساع روسية لرفع حظر التسليح عن قوات اللواء الليبي خليفة حفتر؛ وهو ما فُهم استفزازًا لحلفاء واشنطن الإقليميين وليس لليبيين وحسب، أهو الانتقام إذًا من خديعة الحالة الليبية حين فوجئ الروس بتغيير شعبي لم يُبقِ على حليفهم هناك ورؤوا يدًا غربية وراء ذلك؟
إذا كان الأمر هكذا، فليس الموقف الروسي مجرد محاولة لترتيب الأوراق في منطقتنا لمرامي سياسية واقتصادية وحسب؛ فموسكو تنشد هدفًا استراتيجيًا أشمل، وهو نظام إما عالمي جديد تصفه بالمحاولة الأكثر عدلًا؛ ما يسميه وزير الخارجية الروسي سيرجيه لافروف “نظام ما بعد الغرب”. تتهم بلاده ذلك الغرب، بقيادة واشنطن، بمحاولة إعاقة تشكيله؛ ما يشجع برأيه على الفوضى، وفي نظر الروس فإن ثورات الشعوب جميعها جزء من تلك الفوضى.
كما يبدو، لم ينس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجنرالاته ودبلوماسيوه أن شرر ثورات الربيع العربي قد تطاير إلى بلاده في مظاهرات احتجاجية حاشدة على نتائج الانتخابات التشريعية أواخر عام 2011. فكيف هددت الثورات روسيا؟ وما الأهداف الجيوسياسية التي تحدث عنها وزير الخارجية؟
فقد أدخل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الثورات العربية في دائرة الثورات الملونة التي شهدتها دول سوفياتية سابقة مثل أوكرانيا وجورجيا.
شويغو، وأمام المنتدى الشبابي الروسي الثاني، صرح بأن تدخل بلاده في سوريا ساعد في إنجاز مهمة جيوسياسية تتمثل في قطع ما دعاها “سلسلة الثورات الملونة” في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إذا كانت الثورات العربية ملونة، فلماذا تنزعج منها روسيا ويعتبرها وزير دفاعها شرًا سيشمل بلاده فجاء التدخل الروسي في سوريا لوأدها؟
الثورات مؤلمة
من موسكو، تفسر المستشارة في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية “يلينا سوبونينا” ما ذهب إليه وزير الدفاع الروسي بأن بلادها خبرت جيدًا ما تفعله الثورات والحروب الأهلية، وأن ثورة 1905 وثورة 1917 ما زالتا ماثلتين.
وتضيف في تصريح تلفزيوني أن الثورات مؤلمة، ومستندة إلى ما قاله فيلسوف روسي بأن الإصلاح التدريجي هو الأفضل.
موقف متحفظ من الثورات
“سوبونينا” ترى أن موقف روسيا من الثورات “متحفظ جدًا”، مشيرة إلى أن نتائج الربيع العربي غير إيجابية، وأن روسيا سبقت كثيرين يقولون الآن إنه ليس ربيعًا؛ إنما خريف عربي.
وفي رأيها أن التغيير في العالم العربي لا يعود إلى عام 2011، بل 2003؛ حين غزت أميركا العراق بدعوى تحويله إلى دولة ديمقراطية؛ فهل من أحد يزعم اليوم أن العراق ديمقراطي؟
أما ليبيا، كما ترى سوبونينا، فتدخّل فيها حلف الناتو ثم تركها في “وضع محزن”، منتهيةً إلى القول إن دراسات كثيرة كتبت في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تتساءل: ماذا بعد التدخل؟ من يتحمل مسؤولية الإعمار؟
أساس الهاجس الروسي
أما المُحاضِر في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس صلاح القادري فيرى أن هاجس روسيا يرجع إلى الهزيمة التي أُلحقت بها في أفغانستان، والكتلة التي تشكلت ممن عرفوا بالمجاهدين الذين شاركوا في ثورات الشيشان وداغستان؛ الأمر الذي أسس لعدائية روسيا بوتين للثورات العربية.
الخطأ في ليبيا
ويشير إلى أن تأخر الروس في موقفهم خلال الثورة الليبية سمح للقوى الغربية بأن تتقدم وتنجح القوى الشعبية في إزالة نظام القذافي؛ ما جعل روسيا تتخذ قرارها بالانغماس بقوة في سوريا وارتكاب المجازر في سبيل تأمين قدمها بالمياه الدافئة وبناء قواعد عسكرية في المنطقة.
لعبة المصالح
لكن الحديث عن المسؤولية لا يعني الدول الكبرى، سواء شرقًا أو غربًا؛ إنما في رأي القادري المصالح التي تجعل الغرب وروسيا حريصين على دعم الفاسدين المستبدين الذين يهتمون بمصالحهما ويضمنونها.
وقال القادري: الديمقراطية لم يحضرها الاحتلال الأميركي إلى العراق؛ وعليه تساءل عما إذا كان تدخل روسيا والمجازر التي ارتكبتها ستجعل الديمقراطية مزدهرة في سوريا!