رئيس الجمهورية هو المسئول الأول عن توفير الحياة الكريمة للمواطنين ، وهذا النوع من الحياة لايتحقق إلا إذا تواجدت الأموال بين أيدى الناس بمقدار يفى على الأقل بحاجاتهم الضرورية ، وتوفر المال يحتاج الى نشاط اقتصادى ينتعش لحظة بعد أخرى ، والمناخ الاقتصادى حتى ينتعش يستلزم أن تكون مؤسسات الدولة الرئيسة ( الرئيس والحكومة والقضاء والبرلمان ) قائمة واضحة المعالم والاتجاه لأن رأس المال كما يقولون " جبان " .
النشاط الاقتصادى يريد أن يرى استقرارا فى التشريع ، ويريد أن يعرف توجه المشرع ، كما يريد أن يكون المشرع محترفا لأنه – أى رأس المال – يخاف التجارب ، رأيت قرار السيد رئيس الجمهورية وهو بصدد الوفاء بما قطعه على نفسه أمام الشعب لايريد أن تمضى لحظة بدون توفير مناخ جيد ينتعش فيه الاقتصاد ليتوفر المال بين أيدى الناس ، فيحصلون على احتياجاتهم الضرورية ، لكنه يرى أن واقع المؤسسات الرئيسة الفاعلة فى المجتمع التى يطمئن لوجودها وحرفيتها النشاط الاقتصادى الاستثمارى وتدفع رجاله الى ضخ أموالهم فى مشروعات تعالج البطالة وترفع مستوى الدخول ، رأى أن بعض هذه المؤسسات ليست قائمة ، وتقوم بدورها جهات بديلة ، غير معلوم اتجاهها فى التشريع ، كما أنها ليست – رغم وطنيتها – مختصة فى الأصل بمزاولة مهمة التشريع ، فمجلس الشعب غائب ، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يتولى مهمته ، كما وجد القرار نفسه أمام حكم نهائى صادر من المحكمة الدستورية العليا يمنع عودة البرلمان ، كما وجد نفسه أمام اعلان دستورى مكمل يجعل اختصاص التشريع موكول الى غير أهله .
وجد القرار أن الحالة الاقتصادية تعانى ركودا ، والبرلمان يعانى غيابا ، والتشريع عند غير أهله ، والقضاء أحكامه ملزمة ، فاختار طريقا وسطا ، يجمع بين السياسة والقانون ، ليوفر المناخ الذى يطمئن اليه النشاط الاقتصادى ، لتتحقق مصلحة عليا للمجتمع ، فقرر اعادة مجلس الشعب مؤقتا – احتراما لحكم المحكمة الدستورية العليا _ لحين الانتهاء من صياغة الدستور ، واتساقا مع أحكام الاعلان الدستورى المكمل التى تنص على انتخاب برلمان جديد فور الانتهاء من صياغة الدستور ، وليمارس الشعب سيادته فى التشريع من خلال سلطته المنتخبة معروفة الاتجاه فى التشريع تلك المدة المؤقته ، وهى الأمور التى توفر مناخ ينتعش فيه الاقتصاد .
القرار فعل ذلك بصفته الحاكم بين السلطات ، فإذا بالمحكمة الدستورية العليا تقضى بوقف تنفيذ قراره ، مستخدمة فى ذلك سلطان القانون ، مما ترتب عليه حرمان المجتمع من مناخ كان يمكن أن ينتعش فيه الاقتصاد وتتحقق مصلحة عليا للمجتمع .
ولنا أن تساءل ، لماذا أدى تطبيق القانون – وهو مصلحة – الى ضياع مصالح احق بأن تراعى ؟ أعتقد أن القانون لم يوضع من أجل ذلك ، لأن غاية القانون هى المصلحة العليا ، واذا كان تطبيق القانون قد حقق مصلحة نظرية بحته ، فإنه فى ذات الوقت أضاع مصالح حيوية كبيرة ، فمن الرابح والخاسر فى تلك الأزمة ؟
أرى أن السبب هو غياب فقه الموازنات والأولويات ، ذلك الفقه الذى اعطاه الاسلام للانسان ، وأعطى الانسان العقل ليبلغ رتبة الاجتهاد ، وضرب لنا مثلا فى نبيين من اولى العزم ، هما موسى وهارون ، فقبل موسى من هارون السكوت على عبادة قومه العجل وهى بلاشك أكبر الخطايا ، رعاية لمصلحة عليا أكبر هى أن لاتتفرق أمة بنى اسرائيل الى مزق ، فكان فقه الموازنات يحتم خيار بقاء الأمة مترابطة حتى لو ارتكبت أكبر الخطايا عن أن تقيم حياتها بعيدا عن الشرك وهى متفرقة ممزقة ( قال ياابن أم لاتأخذ بلحيتى ولابرأسى ، إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى اسرائيل ولم ترقب قولى ) سورة الأعراف .
ونحن خسرنا كل شىء ، خسرنا البرلمان ، وخسرنا المناخ الذى يمكن أن يعالج الفقر ، وخسرنا الوحدة من أجل مصلحة نظرية بحته لو محصت ووزنت بميزان فقه الموازنات والأولويات لتغير وجه الرأى .
المصدر: رصد