من قال إن الدعوة إلى تظاهرات جمعة الغضب ضد التفريط في الأرض لم تحقّق نتائج إيجابية؟ دعك من الكلام عن محاصرة الميادين والمداخل بالمصفحات والمدرعات وحشود الضباط والجنود، وحجب المواقع ومداهمة المنازل، دليلاً على رعب النظام، فالثابت أن النظام مرعوبٌ من البداية، مهما تضخمت عضلاته الأمنية والعسكرية، ومهما تعاظمت أوجه الرعاية من (ثلاثي الخليج+ إسرائيل).
نحن الآن بصدد لحظة لاستعادة اليقين، ووضوح المعادلات، ونقاء الصورة: هذا النظام خائفٌ من الشعب، والشعب خائفٌ منه، ولا يثق فيه ولا يشعر بالأمان في ظله.
ولا ينبغي هنا أن نجلد الملايين ممن خافوا وجبنوا عن التعبير عن غضبهم من عار الخيانة، هم مثلك مدركون تماماً أن من يحكم مصر يفرّط في ترابها ويبيع جغرافيتها وتاريخها، لكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة التغلب على الخوف والإحساس بالعجز.
لا يجب أبداً اعتبار أن الملايين التي لم تستجب لدعوات الغضب موافقون على مبدأ بيع الأرض في نخاسة الصفقات السياسية، بل قل إن الأكثرية لا تزال رهينة الخوف من بطش سلطةٍ لا تعرف حدوداً للإجرام والانتهاكات، وكن واثقاً أن هذه الملايين من الإبل الصامتة ستبقى تجترّ أحزانها ومخاوفها، حتى يأتي عليها يومٌ، يقترب جداً، وتبصق فيه غضبها كله، وشعورها بالمهانة، في وجه السلطة، فتقتلعها من جذورها، فقط تحتاج إلى نخبٍ جسورةٍ، تثبت لها أن ارتفاع وتيرة البطش والقمع دليل ضعفٍ وإحساس باقتراب السقوط عند السلطة.
وتظهر وقائع يوم جمعة الأرض أن نظام السيسي ومليشياته المؤيدة تعيش الحالة النفسية ذاتها التي يحيا بها القادة الصهاينة والمستوطنون في فلسطين المحتلة، هاجسهم الأول ومحور حياتهم هو الأمن، يتبدّى ذلك في مشاهد المدرعات والمصفحات التي حاصرت كل شبر في مصر.. وفي طلقات الرصاص الحي التي صوّبت على العدد المحدود من المتظاهرين في القاهرة، ممن عادت أقدامهم تتحسّس طريقها إلى الميادين.. تحاول الوصول، وحتماً ستصل.
وفي اليوم مكاسب أخرى، أهمها إقلاع بعض الرموز عن إدمان التعريض والانتقال إلى المعارضة.. والإقرار بشرعية مكافحة وباء الانقلاب، والاقتراب من حقيقة أن الأزمة أعمق بكثير من موضوع الجزيرتين، وأن النضال ضد هذه السلطة يتأسّس على حتمية إزاحتها، وإدراك أنها عاريةٌ عن أي شرعية.
على أن ذلك كله يتطلب أن تعاود النخب السياسية الارتقاء إلى مستوى وعي الجماهير، وهو نوعٌ أقرب إلى الحدس والإدراك الفطري منه إلى التنظير والتقعير، وقد أثبت جدواه في ثورة يناير التي نجحت، بفعل تلك الكيمياء العبقرية التي اتسعت لاحتواء شركاء في حلم تطهير مصر من ملوثات نظام حسني مبارك.
وقد قلت في ذلك قبل أسبوعين من هزيمتنا الحضارية في 30 يونيو/ حزيران 2013 إن أي كلامٍ عن استكمال هذه الثورة باستبعاد وإقصاء أحد عناصرها لصالح زراعة جسم غريب بها هو نوع من الدجل السياسي والخلل الفكري الذي يخاصم كل قواعد المنطق والأخلاق.
ومن هنا، أحسب أن دعوة الناس إلى الغوص في مستنقعات حياة سياسية عطنة، وأن تسوقهم إلى أحزابٍ، وتغلق عليهم الأبواب، هو بمثابة نزوع إلى تجفيف أنهار الغضب الجمعي العفوي، وتحقيق لرغبة سلطةٍ تهيمن على كل السلطات، بما يجعل توخّي أي شكل من المنافسة السياسية الحقيقية ضرباً من الدجل والوهم.. وأمامك ما يسمى البرلمان الذي تأكد أنه لا يعدو كونه غرفة الغسيل في بيت السلطة، لا فرق فيه بين رافضٍ اتفاقية تيران صنافير ومؤيد لها، مادام يجلس تحت قبته، لا يجرؤ على الاستقالة والتطهر من هذا العار.
وما شاهدته في البرلمان ينسحب على كل المجالس والهيئات التي يدّعي المنضمون لها دوراً إصلاحياً من داخل النظام، ذلك أن الوقائع تثبت أنهم ليسوا أكثر من قطط أليفة، تتجول بين ردهاته، وأخصّ هنا ما يسمى المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي يضم من ثوار يناير المتقاعدين شباباً وشيوخاً لم يجرؤ أحدٌ على الاحتجاج أو التلويح بالاستقالة، وهو يتابع مشاهد اعتداء الشرطة بالضرب على واحدٍ من شيوخ ميادين الثورة، والمنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير، سابقاً، الدكتور عبد الجليل مصطفى، من دون أن نسمع ولو همسة عتابٍ من الرفيقين عبد الغفار شكر وجورج إسحاق.
إجمالاً، لا يمكن توقع دور للرموز والزعامات السياسية والحزبية، في تقوية بنية الحراك الحالي، قبل أن تتحرّر هذه الرموز من خوفها وعجزها، وتعلن الاستقالة النهائية من مؤسسة الانقلاب.. أو الاستقالة من الإهانة، وبكلمةٍ واحدة، الاستقالة من السيسي.