لا ريب أن الانترنت من أجل نعم الله على هذه الأمة، وعلى الشعوب المقهورة بشكل عام، فهي المساحة الوحيدة التي يعتدل فيها أمر الحياة لتكون "الشعوب فوق السلطة"، من بعد ما قامت الدولة المركزية الحديثة بقلب هذه المعادلة لتكون السلطة دائما فوق الشعب، ولتكون الشعوب دائما عبيد وموارد عند السلطة.
ثم كانت شبكات التواصل الاجتماعي من أجل نعم الله، وهي الآن ذروة تطور هذه الحالة المجتمعية، فهي توفر فرص ربط بسيطة لعدد ضخم من الأفراد والكيانات، فبعدما كان المرء قبل عشر سنوات مضطرا لزيارة العديد من المواقع ليقرأ، أو الاشتراك في العديد من المنتديات ليتحاور، أو يتابع العديد من المدونات.. صار كل هذا بسيطا جدا، تأتيه به صفحة واحدة، فتوفر عليها أوقات الانتقال ثم توفر له إمكانيات النشر بشكل سهل بسيط!
على أن الحياة لا كمال فيها، وما من شيء إلا وله سيئات وسلبيات..
وهنا، أحب أن أركز النظر على أمر أحسب أن كثيرين لم ينتبهوا له!
لقد صُنِعت هذه الشبكات لتكون تواصلا اجتماعيا وشخصيا بالمقام الأول، ولا بأس عليها في ذلك فإن الذين صنعوها قوم مُترفون، بينما تلقاها المقهورون في العالم فجعلوا منها وسائل سياسية بامتياز، فبها يناهضون السلطات القاهرة وينظمون سبل مقاومتها!
منذ المنتديات.. ثم المدونات، وبشكل أكبر الفيس بوك، وبشكل أعظم وأعظم تويتر.. توفر هذه الوسائل فرصا كبيرة للحديث عن النفس! والحديث عن النفس -لغير فائدة عامة- هو مدخل كبير للغرور وتضخم الذات.. وأحيانا للتفاهة!
من الشباب من يقضي وقته –منذ زمن المنتديات والمدونات وانتهاء بالشبكات الاجتماعية- في الحديث عن نفسه وماذا سيفعل في يومه وليلته، ماذا سيسمع وماذا سيشتري وماذا يفعل الآن وماذا سيفعل بعد قليل.. ربما كان هذا لائقا في قوم مترفين لا قضية لهم، وهو أبعد ما يكون عن قوم لهم رسالة وقضية وفكرة!
إلا أن الأخطر –بتقديري- هو شخص آخر يملك فصاحة أو رأيا أو فكرا، ثم أعطته هذه الوسائل فرصة انتشار كبيرة فوجد له جمهورا ما كان يحلم به من قبل، ومن ثم صار له متابعون وأحباب ثم أنصار ومتعصبون أيضا! فذلك شخص أحرى أن يصيبه الغرور وتضخم الذات والكِبْر والاستعلاء!
إن عدد "الإعجابات" أو "التشارك" يزرع الكثير من ثقة النفس في الكاتب.. غير أنه يجب أن ينتبه إلى أن "المغرور هو من غرَّه ثناء الناس عليه"، وأن الذين يعجبون به إنما هم معجبون "بستر الله عليه"، وأنه لو كشف لهم سرائره لكان عندهم في مقام آخر ومكان آخر (نسأل الله أن يسترنا جميعا بستره الجميل)!
فزيادة عدد المشتركين على الفيس بوك أو المتابعين في تويتر إنما هو مسؤولية وأمانة قبل أن يكون دليل تفرد وتميز، وهو لا يعد على الإطلاق "معيار نجومية"! هذا ونحن المسلمون يجب أن يكون لدينا معيار آخر للنجومية غير المعيار المادي..
لكن فتنة الشاب في نفسه تحدث وتحدث كثيرا جدا، ويشاهد المرء بنفسه بوادر السقوط بعد الغرور عند كثيرين، وفي كل عبارة يجب أن يخشى المرء على نفسه من أن يدخل في قلبه كبر أو عجب أو غرور، فتلك هي مُحْبِطات الأعمال؛ إذ "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"، و"من عمل عملا أشر معي فيه غيري فهو لشريكي كله"، والرياء نوع من أنواع الشرك بل هو الشرك الذي وصف بأنه "أخفى من دبيب النمل"!
لقد تفجرت كل هذه الخواطر من مكامنها بعد أن شاهدت الموقع الجديد (ask.fm) والذي يضع المرء في موضع النجومية مباشرة، فكأنه "نجم/ عالم علامة/ مفكر باحث/ خبير اجتماعي… إلخ" وتُوجه له الأسئلة ثم يقوم هو بالإجابة..
مثل هذا الموقع نقل هذه السلبية من شبكات التواصل من كونها سلبية في وسط مزايا أخرى لتكون موقعا قائما بذاته ومنفردا بها، وهو لذلك أدعى أن يكون المشترك فيه على خطر، ويجب عليه أن يحذر إذا قرر الدخول فيه!
لست أدعو لعدم الاشتراك فيه –وإن كنت في هذه اللحظة أحبذ هذا وأراه الأفضل- لكني أنبه من قرر ذلك أو ينويه إلى ضرورة أن يراجع نفسه وحال قلبه، وأن يكون يقظا وحذرا أمام تسرب الكبر والغرور والعُجْب إلى نفسه!
وعلى كل حال.. فنحن قوم، كان من خيارهم "الأتقياء الأخفياء.. الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا"!
المصدر: رصد