بعد ساعات قليلة من إعلان قرار الرئيس محمد مرسى إقالة رئيس هيئة الرقابة الإدارية ونائبه، روى الدكتور محمد البلتاجى القيادى الإخوانى والنائب البرلمانى فى صفحته على موقع «فيس بوك» القصة التالية: فى الأسبوع الماضى اتصلت به هاتفيا سيدة لا يعرفها، ذكرت أنها مساعدة لشخصية كبيرة جدا فى هيئة رقابية سيادية، وقالت إنها «أرادت أن تنبهنى إلى أن هذه الشخصية الكبيرة لاتزال حتى الساعة تراقبنى وتراقب آخرين معى، وتتنصت على كل مكالماتى وتسجل تحركاتى». أضافت السيدة أنها ظنت أن مثل تلك الأعمال ستتوقف بعد الثورة.
ولكنها اكتشفت أنها لاتزال مستمرة رغم مضى نحو عشرين شهرا على نجاحها، حتى إنها باتت «ترى بعينيها العفن والفساد كل يوم»، ومن ثم فإنها قررت أن تبلغه بالأمر لكى يأخذ حذره على الأقل. فى نهاية رسالته قال الدكتور البلتاجى إنه سأل المتحدثة عن هوية تلك الهيئة التى تراقب النشطاء السياسيين وتتنصت عليهم، فكان ردها أنها ظنت أنه ليس بحاجة إلى طرح السؤال، لأن الإشارة فى كلامها كانت واضحة فى أنها تعنى الرقابة الإدارية.
رغم أن المتحدث مجهول وراوى القصة شخص واحد فقط هو الدكتور محمد البلتاجى، وليس لدى فى الوقت الراهن مصادر أخرى يمكن أن تؤيد تفاصيلها، فإنها ترسم بعضا من ملامح صورة الدولة البوليسية التى عاشت فى ظلها مصر طوال العقود الأخيرة. حين كانت أجهزة الرقابة تمثل عين السلطة على المجتمع فى حين أنها فى الدول الديمقراطية تحمى الدولة والمجتمع.
لقد قرأت أن فى مصر 33 جهازا رقابيا، وهو أمر لا يزعجنا إلا إذا كانت أنشطة بعض تلك الأجهزة موجهة ضد المجتمع وليس فى صالحه حيث قد يفهم ويبرر تعدد الأجهزة الرقابية فى بلد كبير بحجم مصر، للبيروقراطية فيه تاريخ عريق، ولجهات الإدارة تاريخ أعرق، منذ كان فرعون مصر يتحكم فى توزيع مياه النيل على الزراعات الواقعة على ضفتيه. وإذا أضفنا إلى ذلك حساسية موقع مصر والأوضاع المضطربة المحيطة بها فإن ذلك يعد عنصرا إضافيا يؤكد أهمية وجود الأجهزة الرقابية فيها، بأعينها المفتوحة عن آخرها على جبهتها الداخلية وعلى حدودها أيضا.
حدثنى من لا يفضل ذكر اسمه عن أن عمليات التنصت على الهواتف مازالت مستمرة إلى الآن. وأن بعض الجهات السيادية التى منحت تلك السلطة فى ظل النظام السابق لم يتغير فى صلاحياتها شىء. الأمر الذى يثير أكثر من سؤال حول حدود وضوابط وأهداف تلك العملية، وتتضاعف الأسئلة إذا علمنا أن أنشطة بعض تلك الجهات تتجه إلى الخارج بأكثر من تركيزها على الداخل، الأمر الذى يعنى أن نشاطها لا علاقة مباشرة له مع الجبهة الداخلية التى توجه إليها عملية التنصت.
من ناحية أخرى، سمعت من وزير داخلية أسبق ــ لم أستأذنه فى ذكر اسمه ــ أن جهاز أمن الدولة فى ظل النظام السابق كان يعد صبيحة كل يوم تقريرا عن خلاصة عمليات التنصت التى كانت تتابع وتراقب محادثات أبرز المسئولين والناشطين السياسيين فى البلد. وهذا التقرير كانت تعد منه ثلاث نسخ فقط، واحدة للرئيس السابق، وآخر للهانم، والثالث للابن الوريث. وهو تقليد لا أعرف إن كان مستمرا إلى الآن أم لا، لكنه يظل قرينة دالة على كيفية توظيف أجهزة التنصت فى السابق، الأمر الذى لم تكن له علاقة بالنظام العام أو المصالح العليا.
ما سبق يسوغ لنا أن نقول بأن أجهزة الرقابة كانت بمثابة الصندوق الأسود الذى يحتوى على أسرار النظام السابق، وأن ملف هذه الأجهزة ينبغى التعامل معه بمنتهى الحزم والحذر، خصوصا أننا إذا تحدثنا عن الدولة العميقة، بمعنى شبكة المصالح غير المرئية والمناوئة للثورة، فينبغى أن تدرج الأجهزة الرقابية على قائمتها. ولست أشك فى أن الجميع يعرفون الآن أن بعض عناصر تلك الأجهزة كان لهم تحيزهم المشهود إلى مرشح النظام السابق فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
إن التحدى الذى يواجهه النظام الجديد يتمثل فى كيفية الاحتفاظ بالأجهزة التى تتطلبها عملية تأمين الدولة والمجتمع، على النحو الذى يعزز التحول الديمقراطى ويحميه وفى الوقت نفسه لا يسمح للدولة العميقة بأن تمارس دورها فى خدمة الثورة المضادة وإجهاض التحول المنشود. وهو أمر ليس سهلا وسوف يستغرق وقتا طويلا. ذلك أن الأجهزة الرقابية إذا كانت أسهمت طوال ثلاثين عاما فى تأمين النظام السابق وكان لبعضها دوره فى التستر على فساده، فإن تفكيكها وتأهيلها للقيام بدور إيجابى فى بناء النظام الجديد قد يستغرق عدة سنوات، وهو أمر ينبغى ألا يقلقنا لأن الأهم فيه هو وضوح الهدف المتمثل فى تطهير الأجهزة لتمكينها من الإسهام فى بناء النظام على أسس سليمة ونظيفة وليس الإسهام فى قمع المجتمع والتستر على فساد حكامه، وليت ما حدث فى الرقابة الإدارية يكون خطوة فارقة فى هذا الاتجاه.