بعد انتقادات عديدة واستنكار حقوقي، قدّم اللواء أبو بكر الجندي، وزير التنمية المحلية، اعتذاره عن تصريحاته أمس بحق أهل الصعيد، التي قال فيها: «مش عاوز صعيدي يركب القطار ويجي القاهرة»، وادّعى أنّها فُسّرت بطريقة خاطئة، معربًا عن تقديره واحترامه لأهل الصعيد كافة.
في هذا التقرير، نرصد رحلة «البحث عن اليومية» ودوافع أهل الصعيد للهجرة من أقاصيه وصولًا إلى القاهرة.
سوهاج عاصمة الفقراء
تعدّ سوهاج واحدة من كبرى محافظات الجنوب مساحة وسكانًا، لكنها منسية، وهي عاصمة الفقر وأقل محافظات الصعيد حظا. فيها 60 قرية من المائة الأفقر على مستوى الجمهورية، وهي الوحيدة التي أعلنت عجز الموازنة عن إفلاس خزينتها. وفيها أعلى نسبة بطالة وأمية؛ لذلك هي كبرى محافظة طاردة للسكان.
ويسافر أهل الصعيد إلى القاهرة الكبرى بحثًا عن عمل، ومن أكثر المهن التي يعملون فيها المعمار أو البناء، حتى اقترنت بهم، ثم تليها أعمال الحفر وتكسير الحوائط «الفواعلية» والمحارة وصناعة الأخشاب.
يقول حسين قبيصي (35 سنة)، عامل بناء من سوهاج، إنّ «فرص العمل في الصعيد معدومة، والحياة صعبة، ولا توجد وظائف؛ لأنّ الشركات والمصانع يعيّنان الأقارب، والوظائف الحكومية يتحكم في توزيعها نائب مجلس الشعب».
واستنكر تصريحات اللواء أبو بكر الجندي قائلًا إنّ «الوزير مرتاح في مكتبه ولا يشعر بأيّ أزمات للفقراء، وعليه أولا أن يوفر فرص عمل ووظائف لأهل الصعيد قبل الحديث هكذا».
مؤهلات للحراسات
لم يقتصر العمل باليومية على الأميين فقط، بل أيضًا شمل الحاصلين على شهادات متوسطة وعليا؛ منهم شاب عشريني يدعى «أحمد عبدالعال»، حاصل على بكالوريوس تجارة، أكّد لنا أنه جاء إلى القاهرة بحثًا عن الوظيفة، لكنه لم يجد؛ فاضطر للعمل في شركة أفراد أمن يوزعون بحسب احتياجات الشركات، مؤكدًا أنّه بجوار عمله يشارك في الدورات التدريبية لتنمية مهاراته.
أما محمود عطية (أعزب) الحاصل على دبلوم تجارة، قال إنه «أُجبر على العمل في المعمار؛ لأنّ وظائف المصانع والشركات في بلده المنيا يحصل عليها أشخاص بعينهم دون شرط الكفاءة؛ أي بالوساطة».
ويعاني أغلب من يهاجرون داخليًا من الغربة عن أهله كما لو كان خارج مصر، فيقول عبدالمحسن: «ماقدرتش أبقى جنب عيلتي؛ لأن مفيش هناك شغل، وماقدرش آخدهم يعيشوا معايا في القاهرة؛ فأنا عندي ثلاثة أولاد وبنت؛ خاصة أن الدنيا بقت غالية، وأنا باشتغل يوم وعشرة لأ».
ويتمنى محمد عادل (29 سنة)، متزوج ومقيم بالفيوم، أنّ «يكون له راتب ثابت، حتى لو 25 جنيهًا في اليوم»، وقال: «اليومية بتاعتي من مائة جنيه لـ150؛ لكن مش بتقفل 2500 جنيه، لأنها مش ثابتة كل يوم، والحكومة مش بتبصلنا».
نار الرصيف
«إحنا على باب الله، المقاول دا نعمة؛ لأنه بيبقى عارف مين اللي تبعه وبيعمل حسابهم في كل شغلانة، أدينا أهو عشان من غير مقاول قاعدين على الرصيف»، هكذا عبّر «أبو ياسر» -50 عامًا، مشرف عمال- عن الفرق بين عامل اليومية تحت إشراف أحد المقاولين، وبين من يجلس على الأرصفة ينتظر من يطلبه للعمل.
واتفق معه المقاول عبدالرازق عوض (40 سنة) قائلًا: «أنا مقاول وعندي فريق من 11 رجلًا، باكلفهم بالشغل وعمري ما أستغنى عنهم».
وعلى أرصفة شوارع الجيزة من السادسة صباحًا وحتى الخامسة مساءً، يجلس عمال برفقة أدواتهم من الهدم «أجنة ومطرقة وشاكوش وقطع مستطيلة من الحديد القوي» انتظارًا لفرصة عمل أيًّا كانت، لا يستطيعون الانتظار على المقاهي؛ حتى لا يُجبروا على طلب مشروبات. ومنهم من يرزقه الله بيومية فيذهب لعمله، ومنهم من «ينتظر الفرج».