كثيرًا ما انبرى إعلاميو نظام السيسي المعروفون بأنهم الأذرع الإعلامية له في مدح أفراد الشرطة للحصول على ولاء القيادات الأمنية. ولكن، أحيانًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فمقدّم البرامج خيري رمضان، الذي استخدمته هيئة الرقابة الإدارية لمحاولة إعادة الحياة للتلفزيون الرسمي بتخصيص برنامج «التوك شو» الرئيس له، خرج عن النص المكتوب ظنًا منه أنه يستعطف جمهوره لكسب مزيد من تأييد الشرطة؛ فوقع دون أن يعلم بين صراعات الأجهزة الرقابية.
وفي حلقة هي الأولى له على القناة الأولى بالتلفزيون الرسمي، مرّ على بثها قرابة أسبوعين، قال خيري رمضان إنّ زوجة ضابط شرطة اشتكت له صعوبات الحياة وعجزها عن دفع مصاريف مدارس أولادها، ونقل عنها: «وفكّرت تروح تشتغل في البيوت وتكسب فلوس تصرف على ولادها»؛ ما اعتبرته وزارة الداخلية إهانة لضباطها، وتقدّمت ببلاغ ضد الإعلامي تتهمه فيه بإهانة ضباطها وأسرهم.
من جانبها، قالت رئيسة جمعية زوجات ضباط الشرطة «رشا كامل» إنّها تقدّمت هي الأخرى نيابة عن الجمعية ببلاغ ضد خيري رمضان؛ فما بثّه على الهواء أساء لزوجات ضباط الشرطة، «إضافة إلى كونها أخبارًا كاذبة وغير حقيقية دمّرت معنوياتهم خلال هذا التوقيت الذي يخوضون فيه المعركة ضد الإرهاب»، نافية صحة ما أورده الإعلامي في رسالته.
واعتبرت أنّ «الرسالة التي تلاها خلال البرنامج سيئة النية، ولا يمكن أن تكون لزوجة ضابط شرطة، فضباط الشرطة يعيشون حياة جيدة، وتوفر لهم الدولة كافة السبل المتاحة لراحتهم وراحة أسرهم، لذلك فالوزارة نفسها ساءها ما قاله رمضان، وسارعت لتقديم بلاغ ضده»، على حد تعبيرها، مضيفة أنّ «هناك بلاغات أخرى من ضباط شرطة وزوجاتهم سيتم تقديمها ضد رمضان».
مقصلة الأمن
وسرعان ما استدعت نيابة وسط القاهرة خيري رمضان وباشرت النحقيق معه في بلاغ مقدم ضده من الإدارة العامة للشؤون القانونية بوزارة الداخلية، تحت رقم 1070 لسنة 2018، يتهمه «بالإساءة للوزارة وضباط وأفراد الشرطة وذويهم وإذاعة أخبار كاذبة ببرنامجه المذاع على القناة الأولى (التلفزيون الرسمي)».
وأمرت نيابة وسط القاهرة بحبسه 24 ساعة لحين ورود تحريات الأمن الوطني في الواقعة، بعدها قررت حبسه أربعة أيام احتياطيًا.
وكل هذه القرارات جاءت بعد يومين فقط من تصريحات عبدالفتاح السيسي بأنه «لن يسمح بالإساءة للقوات المسلحة أو الشرطة، لأنها تعد خيانة عظمى (من وجهة نظره)»، زاعمًا أن أي انتقاد لأداء المؤسستين الأمنيتين، سواء في الإعلام أو على مواقع التواصل الاجتماعي، «لا علاقة له بحرية الرأي»، ويمثل إساءة إلى جميع المصريين.
ونقلت صحيفة «صوت الأمة» عن هيئة الدفاع عن الإعلامي خيري رمضان أنها توجهت إلى مقر وزارة الداخلية في محاولة للتصالح مع الوزارة عن البلاغ المُقدم ضد خيري رمضان لإخلاء سبيله؛ لكنّ وزارة الداخلية رفضت الصلح، مؤكدة أنّ هناك مفاوضات لشرح وجهة نظر الإعلامي.
التوسل والسماح
زملاء خيري في أذرع السيسي الإعلامية أجمعوا على التوسل لوزارة الداخلية للتنازل عن المحضر المقدم ضده، وليس للدعوة لمزيد من الحريات أو تخفيف القبضة الأمنية على الإعلام. وكان على رأسهم لميس الحديدي على قناة cbc، وتامر أمين على قناة «الحياة»، وجابر القرموطي على قناة «النهار»، وعمرو أديب على قناة «OnE»، ومحمد الغيطي على قناة «العاصمة».
وكشفت توسلاتهم حالة من الخوف أن تطال مقصلة الأمن أحدهم إذا أخطأ في المدح والتهليل؛ وطالبوا السلطات بالرفق بالإعلاميين، خصوصًا من وقفوا ضد «الإخوان المسلمين» ودعموا السيسي.
بياكل عياله؟!
لكنّ عمرو أديب كان أبرز المعربين عن قلقهم مما أسماها «حالة الخوف والشك»، واعترف بأنه «ضمن الذين وقفوا في صف الدولة المصرية ضد الإخوان».
وتساءل: «ماذا لو اتفق هذا الإعلام مع الإخوان قبل 30 يونيو، كيف سيكون الوضع الحالي للوطن؟ النهارده بقينا كلنا إخوانجية ومطبلاتية وضد البلد، إنتو نسيتونا، لا اللي وقف مع البلد نفع ولا اللي وقف ضدها نفع، طيب قولوا لنا مين اللى نفع».
وتابع: «ليه المجتمع ده بياكل عياله؟ وما هو الداعي للتوحش؟ ولما إحنا من جوانا نقطع بعض هنوصل لإيه؟»، مشددًا على أنه «لو عايزين نكمل في البلد دي ما ينفعش نسوق كل يوم إنسان جديد للمشنقة».
وقالت زوجته لميس الحديدي إنّ «خيري رمضان إنسان دمث الخلق، وكان أكتر واحد فينا بيدافع عن الداخلية وأكثر مذيع دفاعًا عن مؤسسات الدولة وداعم لـ30 يونيو»،
ولم يمض يوم وأخلت محكمة شمال القاهرة، برئاسة المستشار مصطفى صالح، سبيل خيري رمضان بكفالة عشرة آلاف جنيه؛ في جلسة مُنع فيها المصورون والصحفيون ومحامون متضامنون معه.
تجاهل نقابة الصحفيين
ولم تعلق نقابة الصحفيين على الأمر؛ بل إنّ النقيب عبدالمحسن سلامة يرى أنّ المرحلة التي تمر بها مصر «حرجة جدًا» وتتطلب من جميع المؤسسات «التكاتف لمواجهة المؤامرة التي تحاك ضدها»، وأن عبد الفتاح السيسي «يبذل جهدًا كبيرًا على مدار الساعة ليواجه قَدَرَه في قيادة البلاد في هذه الفترة الصعبة من تاريخها».
وأضاف، في الندوة التي نظمتها النقابة الفرعية للصحفيين في الإسكندرية قبل يومين، أنّ نقابة الصحفيين لم تكن يومًا في مواجهة مع مؤسسات الدولة؛ بل هي من ضمن أذرعها الرئيسة، وكان للصحفيين دور محوري في مواجهة السيناريوهات التي كانت معدة لانزلاق الدولة فيها.
صراعات الكبار
ونقلت صحيفة «العربي الجديد» عن مصادر رسمية «لم تسمها» أنّ الأسباب الحقيقية التي دفعت وزارة الداخلية المصرية للزجّ بخيري رمضان، المحسوب على النظام، إلى السجن تكمن في صراع بين جهاز الرقابة الإدارية ووزارة الداخلية؛ بعد تكليف الهيئة بتولي مسؤولية تطوير مبنى التلفزيون الرسمي «ماسبيرو» وإنهاء أي دور لجهاز الأمن الوطني ووزارة الداخلية داخله، خصوصًا أنّ التكليف للرقابة الإدارية قادم مباشرة من مؤسسة الرئاسة.
وأضافت أنّ «وزارة الداخلية أرادت أن تثبت موقفًا وتُظهر الرقابة الإدارية بصفتها المسؤولة عن ماسبيرو بدور الخارج عن سياق الدولة، والمخالف لتصريحات السيسي التي أكد فيها أنه سيعتبر أي إساءة إلى الجيش والشرطة في هذا التوقيت خيانة عظمى».
وأكّدت المصادر أن رئيس الرقابة الإدارية، اللواء محمد عرفان، طالب مؤسسة الرئاسة بالتدخل لحسم هذه الخلافات؛ متهمًا وزير الداخلية بالسعي لإفشال جهود تطوير المبنى الذي يضم 42 ألف موظف وإعلامي.
المدير الفعلي
وقالت مصادر بماسبيرو إنّ السيسي أصدر تعليمات لمدير مكتبه عباس كامل باستقطاع إدارة القناة الأولى الحكومية بالكامل من الاتحاد ووضعها تحت يد الرقابة الإدارية، لتصبح مختصة بتطوير أداء القناة على نحو عاجل، واستغلال مقوماتها وزيادة عوائدها وإبرام التعاقدات من الناحيتين الإدارية والمالية، على أن يقتصر دور الكوادر الفنية في القناة على إمداد الرقابة الإدارية بالمعلومات والاستشارات الفنية.
ويوضح المصدر أن الرقابة الإدارية باتت المدير الفعلي للقناة الأولى، إذ خُصصت لها لجنة من ضباط الهيئة لمباشرة الشؤون المالية والإدارية والتعاقدات الخاصة في القناة، كان من ثمارها إطلاق القناة بخريطة برامجية جديدة بداية العام الحالي، وإطلاق برنامج «توك شو» رئيس جديد يقدّمه خيري رمضان المقرب من النظام الحاكم، وإبرام عقود رعاية إعلانية جديدة مع مؤسستي «الأهرام» و«الأخبار» الحكوميتين.
ومنح السيسي للهيئة منذ توليه منصبه، ثم بعدما جعل على رأسها صديقه المقرب اللواء محمد عرفان، مساحة بإطلاق يدها على كبار رجال الدولة والعاملين بها ومنشآتها وزيادة أهمية التحريات التي تُجريها عن المرشحين للمناصب الوزارية أو للتعيين بالدولة أو للالتحاق بوظائف ذات طبيعة خاصة، أو الاستعانة بها لأداء أدوار تختص بها الحكومة في الأصل؛ كالاشتراك مع الجيش والمخابرات العامة في بيع السلع الغذائية بأسعار أرخص، واشتراكها في إدارة مشاريع خدمية، كذلك حظيت الهيئة بتغطية إعلامية ودعائية مضطردة لتضخيم صورة «حرب السيسي على الفساد»، مستفيدة أيضًا من عمل نجله الأكبر مصطفى في الهيئة.