سرعت الدولة العراقية في إعلان هزيمة «تنظيم الدولة» بعد محاولاته لتأسيس «دولة الخلافة»، وبنت ادّعاءها على انتزاع العاصمتين الفعليتين في «الموصل» بالعراق و«الرقة» في سوريا بعد حملات عسكرية طويلة خاضتها السلطات المحلية بدعم إقليمي ودولي واسع النطاق.
فبعد الاستيلاء السريع على «تلعفر والحويجة» من التنظيم العام الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي» أنّ الحرب ضده انتهت وربحها العراق. بينما اختفى التنظيم في سوريا رسميًا، على الأقل من الخريطة، كما سقط في بلدات تُوقّع أن يدافع فيها عن نفسه حتى الموت؛ لا سيما دير الزور والمناطق بالقرب من الحدود السورية العراقية.
كلّ هذه التقارير والأخبار الماضية المتداولة لم تُفحص جيدًا؛ فما زال التنظيم مسيطرًا على «بوكمال وحاجين» وجيوب صغرى أخرى.
هذا ما يراه الصحفي البريطاني المختص بالسياسة الدولية «جيمس سنيل» في مقاله بصحيفة «ميدل إيست آي» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ المحللين والمراقبين يلاحظون أنّ التنظيم أظهر قدرة على الانسحاب من مناطق بهدف الحفاظ على قواته لا التراجع والانسحاب؛ مفسرين السقوط السريع لمناطق مثل تلعفر والحويجة والأماكن الأخرى بصفقة أبرمت مع القوات المتحاربة معها، واقترح البعض توفير مخرج لهم بدلًا من هزيمتهم كليًا.
تكتيكات مستمرة
ويقول الخبيران في الجماعات الإرهابية «حسن حسن ونرابس كاظمي» إنّ التنظيم لديه القدرة على إعادة تنظيم نفسه والعودة مرة أخرى من جديد، متوقعين أنه اتّخذ من المناطق الحدودية السورية العراقية ذات الكثافات السكانية المنخفضة مكانًا للاختباء ووسيلة للسفر دون عوائق ودون اكتشافهم.
وكشفت تقارير ورادة من الصحفي الألماني «كريستوف رويتر» أنّه حتى في الأراضي العراقية المحررة من التنظيم ما زال قادرًا على التأثير حتى الآن؛ مؤكدا أنّه يظهر بالليل لترويع السكان المحليين، والسخرية من القوات العراقية التي تسيطر على المناطق اسمًا فقط وليس بطريقة فعلية.
وأثبت تنظيم الدولة أنّ تكتيكاته المعتمدة على التخويف وارتكاب أعمال إرهابية كبرى ما زالت تعمل.
رمز التنظيم ما زال قويًا
في الأسابيع الأخيرة، استطاع مقاتلو تنظيم الدولة التنسيق فيما بينهم وقادوا هجمات كبرى في كركوك وبغداد بالعراق، وكابول في أفغانستان؛ حيث يسيطر التنظيم هناك على ولاية كبرى تعرف باسم محافظة خراسان.
كما يحافظ التنظيم على وجود كبير في دير الزور بسوريا، وآخذ في الاتساع عالميًا أمام الجماعات المرتبطة بالتنظيم اسمًا، وما زالت تحت مكانة داخل مجتمعاتها، وتعتمد حاليًا على خبرات وكوادر أجنبية في مصر وأفغانستان ونيجريا والفلبين وغيرها.
باختصار، العلامة التجارية لتنظيم الدولة ما زال قويًا ومتماسكًا وتلقى رواجًا؛ فأتباعه في أوروبا قادرون على إطلاق هجماتهم، كما حدث الأسبوع الماضي في تريب بفرنسا ونفّذ مغربي يدين بالولاء للتنظيم هجومًا؛ وكلها أمور توحي بأنّ التنظيم ما زال بعيدًا عن الهزيمة، حتى لو جزئيًا.
ويرجع بقاء التنظيم وقدرته المستمرة على إطلاق الهجمات إلى القرارات التكتيكية المنفّذة بوعي، إضافة إلى عوامل أخرى خارجة عن إرادته؛ كقرارات الحلفاء والدولة المتحاربة معه، لا سيما أميركا.
التوترات التي لم تحل
بدأت أميركا بقيادة تحالف عالمي لهزيمة تنظيم الدولة في القلب من استراتيجيته، لكنّ هذه الاستراتيجية خلقت مشاكلها الخاصة؛ إذ اعتمدت دول التحالف على الوصول إلى تسويات سياسية لتقليل نفوذ التنظيم وتفكيك بنيته التحتية الأساسية. وما زالت خلاياه قادرة على العمل؛ وهو ما تفسّره الهجمات الأخيرة في المناطق المحرّرة.
كما أنّ سرعة الاستيلاء على الموصل والرقة في العراق وسوريا كانت لها عواقب وخيمة على سلامة السكان المحليين؛ إذ أثّر فيهم التنظيم بقوة؛ وهو ما يعني أنّ التحالف فشل في التعامل مع تبعات وجود التنظيم في المناطق التي كان يسيطر عليها.
كما نمت توترات أخرى لم تكن في حسبان أميركا؛ مثلما حدث بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، ولم تُحلّ إلى الآن، كما لم تستطع دول التحالف طمأنة تركيا بشأن مخاوفها المتعلقة بالحدود مع سوريا؛ فقادت حملة «غصن الزيتون» وغيرها خشية من تنامي نفوذ حزب العمال الكردستاني و«وحدات حماية الشعب» اللذين تعتبرهما «إرهابيين».
الحلفاء يقاتلون بعضهم بعضًا
والآن، تحوّل الحلفاء الاسميون إلى مقاتلة بعضهم بعضًا علنًا وبشكل ملحوظ في سوريا، وعلى مستوى منخفض في العراق، ولم يتخذ الأميركيون خطوات جادة لمنع حدوث مثل هذه الاشتباكات؛ ما شتّت من جهود الحرب ضد التنظيم وأعطاه فرصة لإعادة تشكيل نفسه من جديد.
كما تضاربت المصالح الشخصية مع الأهداف المشتركة، خاصة وأنّ المصالح يصعب التنبؤ بها في ظل تعقيد الصراع؛ وهو ما زاد من التوترات داخل تحالف محاربة التنظيم.
في النهاية، لم تستطع الدبلوماسية الأميركية تقديم كثير لمنع العنف بين الدولة العراقية وحكومة كردستان، ولم تعالج المخاوف التركية؛ ونتيجة لذلك نجمت صراعات موازية للصراع ضد التنظيم، ووسط هذا تمكّن التنظيم من استكمال إبحاره والحفاظ على قواته، وتمكينها من إطلاق هجماتها، بينما يقاتل الحلفاء بعضهم بعضًا!