منذ وصول فريقنا إلى سوريا لمتابعة ما حدث عقب مجزرة نظام الرئيس بشار الأسد بحقّ مواطنيه في مدينة دوما (خارج العاصمة دمشق) الواقعة ليلة 7 أبريل، صادفنا نازحين للتو إلى مخيمات في محافظة حلب (شمالًا) بعد إتمام صفقة بين المعارضة والحكومة يُسمح بموجبها للسكان الخروج من المدنية إلى مخيمات للاجئين.
وبدا الناجون، رجالًا ونساء، شاحبين للغاية وهزيلين، ترتسم على وجههم ملامح سبع سنوات تحت القصف والتفجير المتواصل والحصار وما يليه من نزوح؛ خوفًا على سلامتهم وسلامة أطفالهم.
هذا ما رصده فريق موقع «إن بي آر» في تقرير له وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ تقارير كشفت إطلاق النظام السوري هجومًا كيميائي على مواطنيه في دوما، وتداول النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لجثث أطفال وبالغين، مع رغوى بيضاء تخرج من أفواههم؛ ما قوبل بإدانات دولية، وتعهّدت أميركا بالرد؛ وهو ما حدث بالفعل بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا ضد أهداف عسكرية سورية يوم 14 أبريل الجاري.
وأكّدت أميركا أنّها تمتلك أدلة قوية للغاية على استخدام غاز الكلور السام، وربما غاز الأعصاب والسارين، لقصف المدنيين في الدوما؛ لكن حتى الآن لم يُتأكّد من نوع الأسلحة المستخدمة في الهجوم. بينما نفت الحكومتان السورية والروسية إطلاق أيّ هجوم كيماوي على المدنيين، واصفين المزاعم بالخدعة، وادّعيا أنّ مقاطع الفيديو المتداولة اختلقها نشطاء؛ بل وذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك، متهمة بريطانيا بإطلاق الهجوم!
ووثقّ «المرصد السوري لحقوق الإنسان» حالات اختناق في دوما يوم 7 أبريل، ودفن آخرون تحت الأنقاض. وقال مديره «رامي عبدالرحمن» لـ«إن بي آر» إنّ الغبار والحطام الناتجين عن الغارات الجوية المكثفة قد يكونا السبب في اختفاء المدنيين تحت الأنقاض.
وزار مفتشون تابعون للأمم المتحدة «دوما» لجمع عينات لإرسالها إلى المختبرات لتحليلها، وحصلت «إن بي آر» على شهادات منفصلة من نازحين بمحافظة حلب؛ أكدوا فيها أنهم شموا رائحة كلور في الجو تزامنًا مع الغارات التي قتلت آخرين.
مواصفات ثابتة
وقالت «سيما»، البالغة من العمر 19 عامًا، إنها كانت ترتدي حجابًا أورجوانيًا مشرقًا ليلة الهجوم، وتختبئ بصحبة أطفالها داخل قبو منزل، مع 12 عائلة أخرى؛ وجميعهم يحتمون من أسوأ الغارات الجوية الروسية السورية لمدة سبع سنوات كاملة.
وفي لحظة استراحة من الضربات، تقول «سيما» إنّ أطفالها ذهبوا للعب في الطوابق العليا من المنزل المختبئين فيه، ثم فجأة سمعت صراخًا: «كلور كلور كلور»؛ فتأكّدت حينها أنّ الهجوم كيميائي؛ فكيف يمكن للأطفال أن يكذبوا أو يعرفوا أنّ هذا غاز الكلور أو أيًا كان؟! فهؤلاء الأطفال ولدوا في الحرب ويعرفون رائحة الكلور، التي كانت قوية جدًا.
وأضافت أنّ الغاز اجتاح المنازل، ثم استمر مستواه في الانخفاض حتى وصل إلى القبو الذي يختبئون فيه، ثم سقط مختبئون مغشيًا عليهم، وتحولت وجوههم إلى اللون الأزرق.
ويشرح خبراء الأسلحة الكيميائية بأنّ غاز الكلور يتحوّل إلى حمض الهيدروكلوريك عند استنشاقه، ويسبب تراكم السوائل غرق الضحية فيه بشكل أساسي.
وفي ملجأ منفصل بمحافظة حلب، تحدّثت الصحيفة إلى مصابين متعافين، وكان «أبو فيصل» أحدهم، الذي قال إنّه رأى سحابة صفراء تحوم فوق رأسه، ثم شعر بدوار وسقط مغشيًا عليه. ويقول خبراء الأسلحة الكيميائية إنّ ما يصفه «أبو فيصل» يتّسق مع وصف غاز الكلور السام.
وقالت أماني (34 عامًا)، أم لفتاتين، إنّ الهجوم الكيميائي أفسد رئتيها، موضحة: عندما تشم رائحة غاز الكلور تبدأ في الاختناق ثم الموت؛ لكنها تمكّنت أثناء الهجوم من تغطية فمها وأنفها بقطعة من القطن مغمورة بالمياه، في محاولة لحماية نفسها من الهجوم.
لكن، منذ هذه الليلة ساءت حالة أماني، وأخبرها الطبيب في الملجأ أنّ رئتيها متضررتان بشدة؛ ومن المحتمل أنّ هذا نتيجة الهجوم الكيماوي.
ويعتقد المحللون المستقلون وخبراء الأسلحة الكيميائية أنّ الأدلة المجموعة تكشف أنّ غاز الكلور اُستُخدم. وحلل «إليوت هيغينز»، مؤسس موقع التحقيق المفتوح المصدر Bellingcat، مقاطع فيديو على الإنترنت يُزعم أنها تُظهر شظايا هجوم دوما؛ وأوضح أنّ العبوات الطويلة الصفراء المعدلة تتفق مع الأدلة الموجودة في مواقع هجمات غاز الكلور الأخرى في سوريا، ويلاحظ أنه لم يُكتشف دليل على وجود غاز الأعصاب السارين.
وفي النهاية، الهجوم بغاز الكلور شائع جدًا منذ بدء الحرب السورية؛ ووثّقت الأمم المتحدة عشرات الهجمات بواسطته، ويؤكّد المعارضون أنّهم وثّقوا مئات الحوادث المشابهة، ويجرم استخدام الأسلحة الكيميائية في أعمال الحروب بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية الموقعة عليها سوريا في 2013.