«تسونامي» من الاحتجاجات سرت عدواه من مدينة سودانية إلى أخرى، في مدّ غضب يقول مراقبون إنه تجاوز جميع الأطراف بالبلاد، بما فيها الحكومة والمعارضة.
17 مدينة في 13 ولاية من أصل 18، اهتزت، منذ الأربعاء الماضي، على وقع احتجاجات اندلعت شرارتها الأولى في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، شمالي البلاد.
ويندد المحتجون بتدهور الأوضاع الاقتصادي، في ظل انعدام الخبز ووقود السيارات وندرة السيولة النقدية، على خلفية تراجع قيمة العملة المحلية (الجنيه) ليبلغ في السوق الموازية (غير الرسمية) إلى 60 جنيهًا مقابل الدولار الواحد.
** من الخبز إلى «إسقاط النظام»
من «عطبرة»؛ المدينة العمالية، بدأت شرارة الاحتجاجات، حيث تظاهر، الأربعاء الماضي، الآلاف من طلاب المدارس والجامعات والمواطنين، منددين بانعدام الخبز، وارتفاع سعره، إن وجد، لنحو 3 جنيهات لقطعة الخبز الواحدة.
وسريعا، اكتسحت عدوى الغضب عدة مدن أخرى، في حراك اجتماعي يعتبر الأضخم في عهد الرئيس عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ 30 عاماً.
وفي غضون أيام قليلة، غرقت البلاد في موجات تظاهر عارمة، قابلتها القوات الأمينة بالقوة، وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ في عدد من الولايات، وتعليق الدراسة في المدارس والجامعات.
والجمعة، قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة، ووزير الإعلام، جمعة بشارة أرو، إن «الحكومة السودانية لن تتهاون ولن تتسامح مع أي محاولة تخريب».
وترافقت الاحتجاجات بحرق مقرات إدارية حكومية ومقرات الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وفق إعلام محلي.
ومع اتساع رقعة الاحتجاجات، بات مطلب المحتجين هو «إسقاط النظام»، في تحوّل جذري لطابع حراك يقول خبراء إنه لا يعكس أزمة اقتصادية فحسب، وإنما يشكّل تمظهرا لأزمة سياسية خانقة بالبلاد.
وحتى السبت، أعلنت السلطات السودانية سقوط 8 قتلى في ولايتي القضارف (شرق) ونهر النيل (شمال)، فيما أعلن نشطاء محليون سقوط قتيل في جزيرة أبا جنوبي العاصمة الخرطوم، وآخر في دنقلا و4 في عطبرة.
بينما قال رئيس تحالف «نداء السودان» المعارض، زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي، السبت، إن لدى حزبه حصيلة مفصلة بسقوط 22 قتيلا وعشرات المصابين بمختلف المدن.
وبغض النظر عن الحصيلة النهائية، فإن اتساع رقعة الاحتجاجات بشكل متسارع يفجّر تساؤلات عن مستقبل الوضع بالبلاد في ظل الحراك الشعبي الغاضب، وهل فعلا أن وتيرة هذا الحراك الشعبي الغاضب تجاوزت الحكومة والمعارضة؟.
** الاحتجاجات «تجاوزت الجميع»
منحى تصاعدي تشهده احتجاجات مع انضمام مدن وقرى جديدة، كل يوم، لقائمة المدن المهتزة على وقع المظاهرات في شتى أنحاء السودان.
ويرى محللون أن تحركات الشارع تجاوزت الحكومة والأحزاب المعارضة، وارتفع سقف مطالبها إلى «إسقاط النظام» بدل التنديد بالغلاء وارتفاع الأسعار.
الكاتب ومرشح الرئاسة السودانية السابق، عبدالله على إبراهيم، اعتبر أن «خطة احتلال المدن وإدراتها تشكّل بوابة الخروج من نفق التغيير العسكري (في إشارة إلى تاريخ السودان الحافل بالانقلابات)».
وأضاف إبراهيم، في مقال نشره عبر صفحته بموقع «فيسبوك»، أن «على الثورة (الاحتجاجات بالبلاد) التفكير في السلطة التي سعت لتغييرها، من أجل أن تكون فيها بوضع اليد، حتى لا تكون مثل الذي هز الشجرة والتقط آخر ثمارها».
أما الصحفي السوداني، ماجد محمد علي، فرأى أن «الجماهير التي تقود الاحتجاجات هي من يحدد الحراك السياسي الحالي بالبلاد، وليس الحكومة والمعارضة».
وقال محمد علي، في حديث صحفي: «قبل أيام فقط، كان السودان عبارة عن ملف على جميع موائد النقاش في واشنطن (العاصمة الأميركية) وباريس (فرنسا) وبرلين (ألمانيا)، ولكنه الآن صار بيد الجماهير».
وبالنسبة له، فإن «استمرارية المظاهرات وانتاقلها من منطقة لأخرى ومن مدينة لأخرى يؤشر على قوتها وقدرتها، وقد تجاوزت الجماهير الحكومة والأحزاب المعارضة في تحركاتها، ولم تعد تنتظر من يحدد لها فعلها».
نحيطكم علماً بأن النظام في العناية المركزة
واليوم سنقوم بنزع جهاز العناية المكثَّفة من الميِّت سريرياً
#مدن_السودان_تنتفض pic.twitter.com/WBUu3zGqy3— عصيان (@almokabrabi) December 25, 2018
** إصرار حكومي
في تفاعلهما مع الاحتجاجات، ردت الرئاسة السودانية والحزب الحاكم، بأنهما لن يتهاونا مع التخريب، وسط وعود بحل الأزمة الاقتصادية قريباً، في ردّ اعتبره خبراء حشر القضية في جانبها الاقتصادي فقط.
كما رأوا أنه طالما لم يتم التطرق للأزمة السياسية، فإن الاحتجاجات ستستمر، خصوصا في ضوء الضبابية.
يضاف إلى ذلك أن السلطات لم تقدم أي طرح جديد، سوى إعلان تمسكها بدعوة اللحاق بالحوار الوطني، الذي دعا له الرئيس عمر البشير، في العام 2014، دون أن ينجح في جذب أحزاب المعارضة الكبرى والحركات المتمردة.
ومؤخرا، كرر نائب رئيس القطاع السياسي للحزب الحاكم، محمد مصطفى الضو، الموقف الحكومي المعلن منذ اندلاع المظاهرات الأربعاء، معلناً قرب انفراج الأزمة الاقتصادية.
وقال الضو إن «هناك بشرى ومعالجات في الطريق لحل الأزمات الراهنة، وهناك جهات حاولت استغلال موقف المحتجين السلميين باعتباره بيئة صالحة للتخريب».
** «شكوك» إزاء المعارضة
بعين الشك، ينظر السودانيون إلى التحركات السياسية المعلنة من قبل القسم الأول من أحزاب المعارضة بالبلاد، كما هو الحال مع رئيس تحالف نداء السودان، الصادق المهدي، والذي يواجه اتهامات يتهم بالسعي إلى «إبرام تسوية مع النظام».
ويرفض المهدي أي حديث عن صفقة سياسية، يشارك فيها، وتكون طوق نجاة للنظام، معلنا قبل أيام، أن حزبه يريد «نظاما جديدا».
وأعلن المهدي أن حزبه سيقدم مذكرة للرئاسة السودانية، «إما أن تحظى بالموافقة، أو يقود رفضها نحو السير في طريق الانتفاضة الشعبية».
ويدعو المهدي أحزاب المعارضة إلى الاتفاق حول مذكرة تقدم للرئاسة السودانية، تتضمن خطوات الحل بإقامة حكومة انتقالية، «بما يجنب البلاد الوقوع في الشرور والتمزق».
كما يعتبر أن «المظاهرات العفوية تحتاج إلى تخطيط تقوده أحزاب المعارضة».
أما القسم الثاني من أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزبا الشيوعي والبعث، فأعلنت اصطفافها إلى جانب مطلب إسقاط النظام، وتدعم الحراك الشعبي، داعية إلى الإضراب العام والعصيان المدني غدا الأربعاء.
مطالب تضاف إلى أنباء تفيد بإبرام اتفاق سري بين تحالف الإجماع بقيادة الحزب الشيوعي، ونداء السودان الذي يتزعمه المهدي، على دعم المظاهرات.
وما بين شقّي المعارضة، تتعالى أصوات متابعين مشككة في نوايا المواقف المعلنة في هذا الإطار، بين من يرى أن المعارضة تسعى لإبرام صفقات تحت الطاولة لإنقاذ النظام، وبين من ينتقد «ركوبها» لموجة الاحتجاجات الشعبية، لتحقيق مآربها.