ماذا يفعل رجال المخابرات بأموالهم السرية؟ وأين يضعونها؟ هذا ما أجابت عنه البيانات المصرفية السرية لبنك كريدي سويس السويسري، التي حصلت عليها صحيفة زود دويتشه تسايتونج كجزء من تحقيق «أسرار سويسرا»، والذي كشف عن وجود حوالي أربعين حسابًا تم فتحها على مر السنين من قبل كبار ضباط المخابرات في جميع أنحاء العالم، أو من قبل أفراد من عائلاتهم.
وتوضح الصحيفة أن وجود هذا الوكيل الاستخباراتي الرئيسي ضمن قائمة عملاء مصرف كريدي سويس، الذي كشف عنه تحقيق «أسرار سويسرا»، يُعدُّ أمرًا مثيرًا للشكوك، وذلك على ضوء المبالغ التي وضعها سليمان وعائلته في المؤسسة السويسرية، والتي بلغت ما يناهز 64 مليون فرنك سويسري «39 مليون يورو» حتى سنة 2007.
وتشير الصحيفة إلى أن هذا السياسي والعسكري المصري هو واحد من بين العديد من الوكلاء الاستخباراتيين ضمن محفظة عملاء بنك كريدي سويس، والذين تم الكشف عنهم في تحقيق مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد.
وبحسب الصحيفة، فقد قدم بنك كريدي سويس خدماته إلى حليف رئيسي آخر للولايات المتحدة، وهو سعد خير، الذي ترأس أجهزة المخابرات الأردنية بين سنتي 2000 و2005، والذي اتهمته منظمات غير حكومية بلعب دور قيادي في انتهاكات «الحرب على الإرهاب» التي يقودها الأردن نيابة عن الأمريكيين؛ حيث أشارت بيانات البنك إلى حسابه تم فتحه في سنة 2003، وكان به نحو 28.3 مليون فرنك سويسري «18 مليون يورو» في سنة 2006، قبل أن يتم إغلاقه بعد فترة وجيزة من وفاته في سنة 2009.
وتلفت الصحيفة إلى أن وقت فتح حساب سعد خير يتوافق مع تجارة النفط غير المشروعة بين العراق والأردن، التي كانت تحت إشراف سعد خير، مبينة أنه تم الاتصال بأرملته، لكنها أوضحت أنها لا تعلم بالأموال السويسرية التي كان يمتلكها زوجها الراحل.
المركز المالي لخدمات التجسس
وذكرت الـ«لوموند» أن تحقيق «أسرار سويسرا» يكشف أيضًا عن تداول عدة ملايين من الفرنكات السويسرية في بنك «كريدي سويس» لحساب غالب القمش؛ الذي ترأس لمدة ثلاثة عقود أجهزة المخابرات اليمنية، وهي مبالغ تتعارض مع دخله الرسمي المقدر بنحو 5000 دولار شهريًّا؛ حيث كانت لديه أيضًا علاقات وثيقة مع وكالة المخابرات المركزية، كما ساهم في مطاردة مقاتلي القاعدة المسؤولين عن تفجير السفينة الأمريكية يو إس إس كول في ميناء عدن في سنة 2000.
وتنوه الصحيفة إلى أن البيانات السرية تتيح أيضًا تتبع الحلقات القديمة؛ فقد عرض بنك زيورخ خدماته لأختر عبد الرحمن، مسؤول المخابرات الباكستانية القوية، والذي لعب -في ذلك الوقت- دور الوسيط بين وكالة المخابرات المركزية والمجاهدين الأفغان لتمويل التمرد ضد السوفييت، وعندما مات عام 1988؛ كان بنك «كريدي سويس» يدير حسابين باسم أطفاله، واستمر في ذلك حتى عام 2011، وهي الفترة التي بلغ فيه رصيد الحساب 9 ملايين فرنك سويسري، أي حوالي 7 ملايين يورو، وفقًا لبيانات البنك.
وتبين الصحيفة أنه بقدر ما قد يبدو هذا الأمر مقلقًا، لكن مثل هذا التركيز للجواسيس في نفس البنك لن يفاجئ الخبراء في عالم الاستخبارات؛ حيث كانت سويسرا -ومنذ فترة طويلة- مفترق طرق ماليا لخدمات التجسس التي تعمل تحت حكم السرية، وذلك بفضل السرية المصرفية القوية التي تتمتع بها البنوك السويسرية.
وتتابع الصحيفة تقريرها، فتشير إلى أن العديد من المخابرات -من «سي آي إيه» إلى «كي جي بي»- فتحوا حسابات في بنوك سويسرا للدفع لمصادرهم، وتمويل التمردات بشكل سري، وغيرها من الخدمات؛ حيث يقول مصدر من وكالة استخبارات أوروبية إن سرية البنوك السويسرية تجعل خدماتها مفيدة للغاية للعمليات السرية.
الإثراء المحتمل لكبار الجواسيس
وسلطت الصحيفة الضوء على احتمالية أن تكون الحسابات التي كشف عنها تحقيق أسرار سويسرا، «سويس سيكريت»، بمثابة أوعية للأموال التي دفعتها وكالة المخابرات المركزية إلى الدول الشريكة في الحرب على الإرهاب، التي تقودها الولايات المتحدة، مبينة أنه على الرغم من أن البيانات لا تتعقب بدقة حركة الأموال في هذه الحسابات، لكن بعض المصادفات التاريخية تثبت أنها مقلقة.
وتعطي الصحيفة مثالًا على ذلك بحسابي رئيس المخابرات المصرية الأسبق عمر سليمان، اللذين تم فتحهما في لحظات مهمة من التعاون الأمني بين بلاده والولايات المتحدة: فالأول تم فتحه في عام 1996، بعد عام من تجنيد الأمريكيين لمصر في برنامج الترحيل السري، والذي أُرسل بموجبه المشتبهون بالإرهاب إلى دول معروفة بممارسة التعذيب، وفُتح الثاني عام 2003 عندما كانت الولايات المتحدة تستعد لغزو العراق، على خلفية معلومات عن أسلحة الدمار الشامل لنظام صدام حسين، حصلت عليها الأجهزة المصرية.
ويثير اكتشاف هذه الحسابات -كما ذكرت الصحيفة- التساؤل حول الإثراء المحتمل لكبار الجواسيس، الذين قد يميلون إلى تحويل جزء من ثرواتهم إلى حسابات شخصية لتأمين الحياة في حالة تغيير النظام؛ حيث أظهرت وثائق أسرار سويسرا «سويس سيكريت» أن مبالغ كبيرة ظلت مخزنة في هذه الحسابات بعد المغادرة الرسمية لأصحابها من وظائفهم.
وتنقل الصحيفة عن مصدر استخباراتي مقيم في جنوب شرق آسيا قوله إنه «تم تحويل الكثير من الأموال إلى حسابات بنكية أثناء الحرب في أفغانستان»، مبينة أنه اتهام دعمه عميل سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.
«من شأنه أن يستدعي إجراء تحقيق شامل»
وتفيد الصحيفة بأن روث بلاكيلي من «مشروع الترحيل السري»، وهي مجموعة من الأكاديميين البريطانيين الذين أجروا تحقيقات حول البرنامج الأميركي، تقول إنه «في حال وجود أدلة تثبت أن كبار مسؤولي المخابرات كانوا يكسبون المال من التواطؤ في برنامج الترحيل والاعتقال والاستجواب الذي تقوده وكالة المخابرات المركزية، فإن ذلك يستدعي إجراء تحقيق شامل».
وتؤكد الصحيفة أن هذه الاكتشافات تثير أسئلة حول ممارسات بنك كريدي سويس، الذي عمل لسنوات عديدة مع هذه الشخصيات المثيرة للجدل في كثير من الأحيان؛ حيث أوضح غراهام بارو، الخبير البريطاني في مكافحة غسيل الأموال، أنه «لا يوجد سبب يمنع رئيس جهاز استخبارات من فتح حساب مصرفي، ولكن يجب عليه أن يوضح سبب فتحه وأسباب استخدامه»، مشيرًا إلى أنه يعتقد أن البنك يجب أن يُخضع هذه الملفات الشخصية لعملية «يقظة متزايدة»؛ بسبب الخطر الذي تمثّله.
وتنقل الصحيفة عن مونيكا روث، المحامية المتخصصة في إجراءات «الامتثال» في سويسرا قولها: «لم أكن لاتخذهم عملاء، فهذا أمر محفوف بالمخاطر للغاية»، مضيفة أن رؤساء المخابرات غالبًا ما يكونون «أشخاصًا يتمتعون بقدر كبير من النفوذ، وعلاقات مشكوك فيها، ومصادر مالية غامضة للغاية».
وتقول «لوموند» -في نهاية تقريرها- أنها سألت بنك كريدي سويس حول هذه الحالات، لكنه أوضح أنه لا يمكنه التعليق عليها بسبب السرية المصرفية التي يتمتع بها عملاؤه، فيما أوضحت الصحيفة أن الإدارة الحالية للبنك، والتي جاءت منذ أسابيع قليلة فقط، تؤكد أن «العديد من الادعاءات تاريخية تعود إلى فترة السبعينيات»، وأن عملائها «تعرضوا في العقود السابقة للتحقق؛ وفقًا للإجراءات والمتطلبات المعمول بها”، كما أكد البنك أن لديه الآن «آليات رقابة صارمة» لمكافحة «الأنشطة المرتبطة بالجرائم المالية».