صرنا نخاف على القضاء من بعض القضاة، بعدما توالت الأحكام التي باتت تشكل إساءات بالغة للقضاء، لا تعصف بقيمة العدل فقط، ولكنها تهدر بديهيات ونصوص القانون ذاته.
ليس ذلك فحسب، وإنما أصبح القضاء سبيلا للتنكيل وتصفية الحسابات، ليس في مواجهة الخصوم السياسيين فحسب، وإنما في مواجهة القضاة أنفسهم أيضا، وفي هذا وذاك فقد بدا لنا أن القضاء في حالات كثيرة يميل مع رياح السياسة بأكثر مما يتكئ على القانون لإقرار الحق والعدل، وفي أحيان عدة صرنا نرى في الأحكام بصمات تقارير جهاز أمن الدولة، ونشم فيها رائحة الكيد والانتقام.
أتحدث عن الحكم النهائي الذي قضى بحبس رئيس الوزراء السابق الدكتور هشام قنديل، لأنه امتنع عن تنفيذ حكم كان يتعين على غيره أن ينفذه. وتلك سابقة تحدث لأول مرة في مصر، أتحدث أيضا عن قرار ضبط وإحضار المستشار أحمد مكي وزير العدل السابق والمستشارة نهى الزيني، فيما بدا أنه عقاب للشهود الذين تحدثوا عن تزوير انتخابات عام 2005 في حين لم يتطرق القرار إلى القضاة الذين اتهموا بالتزوير، وهو ما فهم منه أن الأمر ليس مكايدة وتصفية حسابات فحسب، ولكنه أيضا بمثابة إنذار لكل من تسول له نفسه أن يتحدث عن تزوير الانتخابات القادمة.
في ذهني أيضا قرار محكمة استئناف القاهرة بوقف 75 قاضيا بعد اتهامهم بالانحياز إلى فصيل سياسي دون آخر (وقعوا على بيان بتأييد شرعية الدكتور محمد مرسي)، وذلك بعد أن أسقط نادي القضاة عضويتهم لذات السبب.
حدث ذلك في حين أن رئيس مجلس القضاء الأعلى كان ضمن الذين حضروا الاجتماع الذي أعلن فيه عزل الرئيس مرسي، فيما بدا أنه تعبير عن الانحياز إلى طرف سياسي دون آخر.
أتحدث كذلك عن مفاجأة الحكم بحل جماعة الإخوان، الذي أصدره قاض جزئي غير مختص بشهادة المستشار محمد عطية نائب رئيس مجلس الدولة، الذي هوجم لأنه قال إن القضية من اختصاص القضاء الإداري وليس العادي. فضلا عن أن شروط الاستعجال التي قررها القانون غير متوفرة فيها.
ثمة كلام كثير يمكن أن يقال بخصوص القضايا التي برئ فيها ضباط الشرطة الذين اتهموا بقتل الثوار، كما تمت تبرئة المتهمين في موقعة الجمل، في حين انحاز القضاء بشكل سافر في كل القضايا التي كان الإخوان طرفا فيها، فضلا عن القضايا التي رفعت لمحاصرة الدكتور محمد مرسي وشل حركته.
تشهد بذلك مهزلة الحكم في قضية الهروب من سجن وادي النطرون، الذي بدا وكأنه تقرير كتبه ضباط جهاز أمن الدولة، تمهيدا لاتخاذ قرار عزله فيما بعد.
أكتفي في التعليق على تلك المشاهد والقرائن، باستعادة هامش أورده الدكتور فتحي سرور في كتابه «الوسيط» في قانون الإجراءات الجنائية، الذي أصدره وقت أن كان أستاذا للقانون الجنائي.
وقد استشهد فيه بمرافعة قدمها واحد من زعماء النهضة الإسلامية بالهند، حين قدم إلى إحدى المحاكم الإنجليزية أثناء الاحتلال البريطاني لبلاده،
وفيه ذكر الرجل أن «التاريخ شاهد على أنه كلما طغت السلطات الحاكمة ورفعت السلاح في وجه الحرية والحق. كلما لجأت إلى توظيف المحاكم لكي تفتك بمعارضيها كيفما شاءت.
وليس ذلك بعجيب، لأن المحاكم تملك قوة قضائية، وتلك القوة يمكن استعمالها في العدل والظلم على السواء.
فهي في يد الحكومة العادلة أعظم وسيلة للدفاع عن العدل والحق.
وحين تصبح في يد الحكومة الجائرة فإنها تغدو أفظع آلة للانتقام والجور ومقاومة الحق والإصلاح.
والتاريخ يدلنا على أن قاعات المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بعد ميادين القتال..
فكما أريقت الدماء البريئة في ساحات الحروب أحيلت النفوس الذكية إلى إيوانات المحاكم، فشنقت وصلبت وقتلت وألقيت في غياهب السجون (انتهى)
ــ (للعلم، هذه الفقرة أوردها وأيدها الدكتور سرور في طبعة كتابه التي صدرت عام 1980 حين كان أستاذا جامعيا، لكنه حذفها من الكتاب بعدما صار وزيرا، في الأغلب من باب المواءمة مع الوضع المستجد).
ما سبق يدلل على أن البيئة السياسية تشكل عنصرا ضاغطا على القضاء خصوصا حين تتراجع مؤشرات الحرية والديمقراطية، لكن نزاهة القضاء تختبر في هذه الحالة، حيث تقاس بمعيار القدرة على مقاومة تلك الضغوط والحفاظ على استقلاله.
ولا مفر من الاعتراف بأن القضاء في مصر ظل يواجه ضغوط السياسة طوال أكثر من نصف قرن، حتى سمعت من أحد شيوخ زمن القضاء الشامخ قوله إن منحنى التراجع استمر خلال تلك الفترة وبدا الانكسار حادا في الآونة الأخيرة، حتى خسرنا الاثنين، إذ عصفت السياسة بالشموخ وأطاحت باستقلال وحياد القضاء، وحين تواجه مؤسسة العدالة محنة من ذلك القبيل، فإن الوطن يصبح في خطر.