على الرغم من بطشها وقمعها، تحرص الأنظمة السلطوية على إجراء انتخابات -ولو شكلية- سواء على مستوى البرلمان أو المحليات.
فالانتخابات على الرغم مما قد يصيبها من فساد الإجراءات وتزوير النتائج، تمثل إحدى الأدوات المهمة لشرعنة أفعال السلطة، وضمان قدر شعبي، ولو كان ضئيلاً، لتأييدها؛ لذا كلما زاد قمع هذه الأنظمة زادت حاجتها لانتخاباتٍ يمكن أن تعطيها غطاءً خارجيًا يبرر قمعها وبطشها.
ليست الانتخابات بحد ذاتها، إذاً، دليلاً على الديمقراطية، وإنما قد تستخدم مؤشراً على الديكتاتورية والسلطوية. وذلك مثلما هي الحال في مصر الآن، حيث تجري الانتخابات البرلمانية، أو ما تسمى كذلك، وهي الانتخابات التي عزف عنها المواطنون المصريون، في مشهد مكرر لما حدث في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي، قبل حوالي عام ونيف.
تستخدم الأنظمة السلطوية الانتخابات أداة لتحقيق عدة أهداف، أولها توفير غطاء سياسي من أجل تقنين قمع السلطة وشرعنته، وتبريره داخلياً وخارجياً. وثانيها، مكافأة الموالاة وتوزيع الغنائم السياسية على المدافعين عن النظام ورأسه. وثالثها، ضمان عدم خروج البرلمان عن السيطرة، من خلال السماح بوجود معارضة حقيقية في داخله، قد تُحرج النظام، وتكشف أفعاله وتحاسبه عليها. ورابعها إصدار تشريعات وقوانين ترسّخ حكم السلطة المستبدة، وتزيد من تمكنها. وقد كشفت دراسات أكاديمية عديدة حرص السلطويات على إجراء انتخابات دورية، بل وحث مواطنيها على المشاركة فيها، رغباً ورهباً.
لذا، لم يكن مفاجئاً أن يخطب الجنرال عبد الفتاح السيسي، قبل أيام، في مواطنيه، مناشداً ومتوسلاً، أن يخرجوا للانتخابات، وأن يدلوا بأصواتهم في انتخاباتٍ يعلم جيداً أن نتائجها لن تؤثر، من قريب أو بعيد، على سياساته. وقد بدا الرجل كما لو كان يدعو بحق إلى انتخابات نزيهة أو ديمقراطية، يمكنها أن تؤدي إلي برلمان ذي صلاحيات حقيقية. ولولا يقينه ومعلوماته التي تأتيه عبر أجهزة الاستخبارات، أن مواطنين كثيرين حسموا أمرهم، بعدم المشاركة في مسرحية الانتخابات، لما خرج أو تحدث إليهم.
حرْص السيسي على إجراء الانتخابات لا يختلف كثيراً عن حرص ديكتاتور كوريا الشمالية، كيم إيل سونج، على إجراء الانتخابات المحلية قبل أشهر قليلة، والتي قيل إن 99.97% من الشعب شارك فيها، وحصل فيها الحزب الوحيد الحاكم على نسبة 100% من المقاعد، أو “جزار” سورية بشار الأسد الذي أجرى أيضاً انتخابات رئاسية، أو هكذا سُميت، جعلت ديكتاتوراً آخر، يدعي فلاديمير بوتين، يستخدمها مبرراً للتدخل العسكري في سورية تحت غطاء “حماية الحكومة الشرعية”. وهكذا، تستخدم الانتخابات “قميص عثمان” الذي يتم استحضاره، كلما شعرت الأنظمة السلطوية بالحاجة إلى غطاء من الشرعية الكاذبة، لتبرير وجودها.
ولذلك، لم يكن غريباً أن تُصاب وسائل الإعلام الموالية للسيسي بالهيستيريا والخوف، تماماً مثلما حدث في أثناء مهزلة الانتخابات الرئاسية التي اكتسحها الجنرال، بسبب تصحّر مراكز الاقتراع وخلوها من الناخبين. وقد تراوحت ردود أفعالهم بين التوسل للشعب من أجل التصويت أو تهديده وسبّه علناً من دون خجل أو حياء. يريد هؤلاء الموتورون أن يشاركهم الشعب تمثيليتهم الهزلية، وهم لا يعبأون كثيراً ببرلمانٍ، أو بوجود سلطةٍ، يمكنها، بالفعل، محاسبة المسؤولين، وفي مقدمتهم الجنرال. هم يريدون برلماناً “يختم” على قراراته وفرماناته، لكي تصبح قوانين. بل الأنكى أن يدّعي أحدهم، نفاقاً واستخفافا، أن غياب المواطنين عن التصويت “دليل على ثقتهم فى الجنرال”.
لا يتذكّر هؤلاء الشعب إلا عندما يحتاجون إليه، ولا يعترفون بوجوده إلا عندما يريدونه غطاء يُداورن به فشل السلطة وعبثها. في حين أنهم الأكثر حرصاً على أن يظل هذا الشعب تحت حكم عسكري فاشي وفاسد، لا يرى في الشعب سوى مجموعة “رعايا”، تتحرك حسب الطلب، وليسوا مواطنين ذوي حقوق وأهلية. من هنا، تبدو أهمية الانتخابات التي من شأنها أن تنتج برلماناً موالياً تماما للسلطة، بل ومزايداً عليها. فثمة تكهنات قوية بأن البرلمان سوف يعدل من الدستور، لكي يقلل من صلاحيات نفسه لصالح الرئيس. بل ومن المتوقع أن يقوم بتعديل الدستور من أجل ضمان بقاء الجنرال فى السلطة، من دون سقف زمني. ولولا “هندسة” السيسي والأجهزة السياسية نتائج الانتخابات وتصميمه الخريطة البرلمانية المقبلة، لما أجرى الانتخابات، ولما حرص على دعوة الناس إلى المشاركة فيها. وهو الذي “ماطل” عامين فى إجرائها، خوفاً من أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فقد عزف الشعب عن المشاركة في “مسرحية الانتخابات” التي تجري حالياً، وتندّرت الصحف ومحطات التلفزة العالمية على خلو مراكز الاقتراع من الناخبين. حتى وإن كان هذا العزوف تلقائياً، وليس موقفاً سياسياً أو مقاطعة مقصودة، فإن الرسالة قد وصلت أن الشعب ليس عابئاً بهم، ولا بانتخاباتهم، ولا ببرلمانهم.